يدعو الحادث الإرهابي الأخير الذي وقع في لندن، إلى التساؤل عن أبعاد العلاقة بين بريطانيا وتيارات الإسلام السياسي، وهي علاقة ضاربة في القدم، ذلك أن كافة المراجع والمؤرخين يقطعون بأن البريطانيين هم الذين كانوا وراء تأسيس جماعة الإخوان في مدينة الإسماعيلية المصرية عام 1928، لأسباب كثيرة منها مقاومة فكرة القومية العربية البازغة بقوة، أو استخدامها كخنجر في خاصرة ملك مصر ونظامه السياسي في ذلك الوقت.
مهما يكن من أمر الماضي، فإن الحاضر يؤكد على أن تلك العلاقة لا تزال قائمة، وأن مخاطرها باتت تتهدد البريطانيين أنفسهم بقدر كونها موجهة إلى بقية دول العالم العربي، عطفا على دول أوروبا.
أثبتت حادثة الطعن التي جرت على جسر لندن أن الإرهابي لا يتوب، وأنه مهما أبدى من أفكار تراجع عن معتقداته السابقة، فإنه يخفي في قرارة نفسه توجهات كارثية، فأصحاب الدوجمائيات يعتقدون في امتلاكهم الحقيقة المطلقة مرة وإلى الأبد، ويرون الجحيم مستقرا لكل مخالف لهم في الرأي.
سريعا أعلن الدواعش مسؤوليتهم عن الحادث، مما يعني أن عثمان خان منفذ العملية لم يكن إلا أسير أفكار أبو بكر البغدادي وبقية المتطرفين الذين لا يؤمنون بفكرة الوطن مهما قدم لهم، ولا معنى لفكرة الاندماج بالنسبة لهم، فإيمانهم بفكرة الأمة هو أعلى من أي ولاءات أخرى، ولهذا يفضلون العيش في غياهب التاريخ والجغرافيا، تلك المرسخة للعزلة والرافضة للآخر والعدوانية تجاهه، وقد شاهدهم العالم وهم يرقصون فرحا غداة حريق كنيسة نوتردام في باريس أوائل العام الجاري، في مشهد يفتقد لأي ملمح أو ملمس إنساني أو إيماني.
لم يكن ليفوت البريطانيين وأجهزتهم الأمنية عالية المستوى داخليا وخارجيا، أن إيمان الإرهابيين الوحيد هو أنهم الفرقة الوحيدة الناجية من النار، التي من حقها إقصاء الآخرين بل وقتلهم بتهم مطاطة مثل الردة والزندقة والكفر، الأمر الذي تكرر غير مرة في السنوات الأخيرة أوروبيا.
أين أخطات بريطانيا؟ وكيف لها أن تكفر عن خطاياها وهي التي تفتح أبوابها حتى الساعة لفلول الإرهابيين، أولئك الملوثة أياديهم بدماء الأبرياء في العديد من دول العالم العربي، وتسبغ عليهم الأمن وتوفر لهم الحماية، وهي بذلك تدفع سر إثمهم للتمادي والانتشار حول العالم؟
الكارثة وليست الحادثة أن عثمان هذا كان سجينا سابقا وموضوعا تحت المراقبة، ومع ذلك تمكن من أن يضحى لاحقا تلميذا وصديقا مقربا من الداعية الإرهابي أنجم تشودري، الذي أطلق عليه إمام الإرهاب، والداعية الداعشي فك لغز علاقة بريطانيا بالجماعات الأصولية نجده بأفضل صورة عند الكاتب البريطاني مايكل كورتيس في مؤلفه القيم "شؤون سرية.. تحالف بريطانيا مع الإسلام الأصولي"، وفيه يميط اللثام عن الحلف السري الذي غاب كثيرا عن أعين الجميع إلا من المتخصصين ورجالات الاستخبارات بنوع خاص، ذاك الحلف الذي ربط بين الحكومات البريطانية المتعاقبة من جهة وبين مختلف عناصر الإرهاب العالمي من جهة ثانية.
يتساءل الرجل: "ما الذي يجعل بلاد الإنجليز مرتعا للإرهاب والإرهابيين"؟
يبدو أن المصلحة الخاصة كما يقول المؤلف كانت هي الأساس في سياسة بريطانيا الخارجية، ويبين للقراء أن المبادئ والقيم ليس لها مكان عند صناع السياسة في "10 داوننغ ستريت"، وأن الحكومات البريطانية المتعاقبة عملت وفقا لنظرية فرق تسد، وتقلبت في التعامل مع كل الأطراف المتضاربة. هل من مثال يؤكد صدقية المؤلف؟
خذ إليك ما يلي: إنها بعد أن مولت طالبان وسلحتها انقلبت عليها، وساندت حيدر علييف الشيوعي السابق عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي ومن رؤساء الاستخبارات الروسية "كي جي بي" الذي أباد خصومه بوحشية ضد معارضيه المتأسلمين.
الكارثة البريطانية تتجلى عبر اعترافات مسؤولين بريطانيين، يقول أحدهم: "ما نقوم به لا يتسم بالشرف لكنها حسابات المصالح"، فبعد عداء مرير لعدم الانحياز قالت رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت تاتشر إن افغانستان بلد من بلدان حركة عدم الانحياز العظيمة، وبعد إدانتها للمتمردين عادت لتؤكد أن كلمة المتمردين خاطئة، وأنهم مقاتلون في سبيل التحرير، وبعد رفض الإسلام، رجعت لتقول إنه بديل جيد للماركسية، وإن الحكم الديني الإسلامي حائط صد للسوفيت.
والشاهد أنه، وبعد أن أفرخت أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي تشكيلة من القوى الإرهابية بما في ذلك القاعدة، بدا ارتكاب الأعمال الوحشية الإرهابية أولا في البلدان الإسلامية، ثم في أوروبا والولايات المتحدة في التسعينات، ومع ذلك فالأمر الحاسم في هذه القصة هو أن بريطانيا استمرت تعتبر أن بعض هذه الجماعات مفيدة، أساسا بوصفها قوات لحرب العصابات تقوم مقامها في أماكن مختلفة على غرار البوسنة وأذربيجان وكوسوفو وليبيا، وهناك استخدمت إما للمساعدة أو لمحاربة النظم القومية التي تمثلت هذه المرة في نظام سلوبودان ميلوسفتش في يوغوسلافيا ومعمر القذافي في ليبيا.
هل فكرة "عهد الأمن" بين المتأسلمين المتطرفين في بريطانيا وإدارات الأمن، الذى هو سمة أساسية لـ"لندنستان" هي السبب في تلك العلاقة المريبة والغريبة؟
يصف كريسبن بلاك، وهو محلل سابقا لمعلومات المخابرات في رئاسة مجلس الوزراء، هذا العهد باعتباره، عادة بريطانية قديمة العهد في توفير الملجأ والرفاهية للمتطرفين المتأسلمين على أساس افتراضي، بأننا إذا وفرنا لهم الملاذ الآمن هنا، فإنهم لن يهاجمونا على هذه الشطآن، ويضيف ضابط آخر في الفرع الخاص أنه "كانت هناك صفقة مع من يسميهم شذاذ الآفاق هؤلاء، فقد أخبرناهم أنكم إن لم تسببوا لنا أي مشاكل، فإننا لن نضايقكم".
لا يمكن تفسير العهد المذكور إلا باعتباره أمرا غير عادي على الإطلاق، يعادل إعطاء ضوء أخضر من "هوايتهول" لجماعات لكي تضطلع بأنشطة إرهابية في الخارج.
ما الذي يتوجب على بريطانيا فعله الآن بعد أن خان الإرهابيون العهد كعهدهم على الدوام؟ هذا هو السؤال الذي يتوجب تقديم جواب عليه من قبل السلطات البريطانية للشعب في الداخل قبل بقية العالم في الخارج.