"طبقة جليد رقيقة فوق حمم بركانية ملتهبة". كان هذا جوابي.

كنت أرى أن مسلسل الدم لن يتوقف لأنه قُيِّضَ لهذا البلد أن يكون له أسوأ جيرة احتلته، وله شعب مغرم بلعب دور الضحية الأبدية، وأحزاب بولاءات متوزعة حول العالم إلا الولاء للوطن. ولم يكد يمضي وقت قصير عندها قبل أن يتجدد مسلسل التفجيرات والاغتيالات وتبعها عدوان إسرائيلي على لبنان، وتبعها اقتتال حزبي في بيروت والجبل، وتبعها لجوء سوري واختراقات من الدواعش ومن ثم عقوبات أميركية وضغوط دولية حتى وصلنا إلى الوضع الحالي القائم.

يُقال نزل الشعب إلى الشارع ليطالب بإصلاحات. ويُقال إن الأمر عفوي. وبالرغم من أنني أحمد الله أن الشعب استفاق أخيرا، لكني ألعن الساعة التي انحرفت فيها بوصلته عدة مرات ولأن القرار لم يكن أيضا قراره 100% بل تم دفعه نحو هكذا قرار.

أنا أفهم الشعب، فأنا جزء منه وأهلي يُعانون كما تُعاني معظم العائلات من فساد الطبقة السياسية وتلوث يتسبب بسرطان يأكل الصحة، واغتراب للأبناء ليساعدوا عائلتهم، وقلة ثقة بالمسؤولين الذين بنوا هياكل لهم ولأبنائهم على مقاس عوائلهم لا على مقاس أبناء الشعب. فلا لبناني متعلماً يستطيع أن يصل إلى الحكم أو الحصول على صفقات اللهم إلا إذا كان أحد ثلاثة:

ابن سياسي

خادم سياسي

صديق سياسي.

قلت "يُقال" إن الأمر عفوي، لأني أؤمن بالمثل اللبناني القائل "دود الخل منه وفيه". فالفساد المستشري، وفحش الطبقة السياسية المستمر منذ عقود على منهج فرّق تسد وعلى النهب الممنهج لخيرات الدولة والاستئثار بها، كانت العوامل الأبرز لأي أيد خفية في الاستفادة من الوضع. تم التهيئة للظروف ولم يحتج الأمر إلا لقرار خاطئ وحيد (في هذه الحالة اقتراح الشؤم بفرض ضريبة على مكالمات مجانية) لإشعال الفتيل.

الناس التي نزلت إلى الشوارع، نزلت بمطالب محقة، لكن هل يستطيع أي شخص أن يشرح كيف كانت معظم طرقات لبنان مغلقة بالإطارات المشتعلة في الوقت نفسه منذ أول دقائق ليل 17 أكتوبر لو لم يكن هناك تنسيق مسبق بالموضوع وهو ما دفع بالآخرين للتشجع والنزول أيضا؟

ولا يمكن قراءة أي متغيرات جيوسياسية من دون تتبع المتغيرات الاقتصادية المصاحبة لها على الأقل لخمس سنوات سابقة، والعكس صحيح.

فالعامل الثاني الذي أوصلنا لمرحلة اليأس يكمن في سلسلة الأحداث الخارجية والداخلية على مدى السنوات الأربع الماضية، أي منذ قيام الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بتوقيع قرار خنق تمويل حزب الله وما استتبع ذلك من عقوبات طالت لبنان وقطاعه المالي وأفراد شعبه.

تبع ذلك حملة تهويل إعلامية عالمية كانت تنشر شائعات حول العملة الوطنية والمبنية على جزء من الحقيقة تم تُضخيمها ثم بعد تحقيق الأثر المرجو يصدر تراجع عن الأمر، كلها ساهمت بوصول لبنان إلى الوضع الذي يعيشه حاليا.

وأتذكر عدة جلسات ومحادثات خاصة لي مع دبلوماسيين أجانب ومسؤولين وكيف كانوا يؤكدون أن ضرب حزب الله ماليا لن يكون إلا عبر ضرب قطاع المصارف. وأذكر أيضا هناك في لبنان من كان يتبجح بإسداء النصح لصقور أميركا أن ضرب القطاع المصرفي هو الحل الوحيد وهذا الكلام منذ عدة سنوات.

وبالرغم من تحذيراتي المتعددة للمسؤولين اللبنانيين، وآخرهم أحد المسؤولين في المصرف المركزي اللبناني مطلع هذا العام، فإن كل ما قلته لهم وقع على آذان صمّاء.

معظمهم لم يكن يتخيل أن الوضع سيصل إلى ما هو عليه، وأكاد أجزم أن غرور البعض وعنجهيته منعته من التصديق.

المؤسف أن عشائر الطبقة الحاكمة لا يزالون يعيشون "بالخسة" مثلما نقول في لبنان، أي لا ارتباط لهم بالواقع بتاتا.

لم يتحرك أحد منهم لمجابهة حملات التهويل منذ عام 2017 إلى اليوم، مما ساهم في تفاقم حالة التخوف لدى اللبنانيين وهو ما جعلهم يتدافعون لسحب ودائعهم بشكل كاد أن يشكل اغتيالا للقطاع المصرفي.

وساهم في ذلك إعلام داخلي أمعن في إقحام الاجندات السياسية (للأحزاب التي يتبع لها) في الشؤون الاقتصادية، من منطلق "النكايات" الصريحة، وأولهم حزب الله الذي ما انفك مناصروه يهاجمون حاكم مصرف لبنان، لأنهم يعتبرونه منفذ أوامر الإدارة الأميركية في استهداف الحزب ماليا.

وأنصار الحزب شاركوا في حملة التهويل الإعلامي وعبر وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة لاستقرار الليرة اللبنانية على مدى العام الماضي. والمضحك أن أجندة حزب الله في هذا الأمر تطابقت مع الأجندة الأميركية والأحزاب التي تدور في فلكها وإعلامهم ومناصريهم، فكان أن تحققت النبوءة ذاتيا بأيدٍ داخلية.

واقتضى الأمر عاما ونصف العام لكي نصل إلى مرحلة بائسة ظل فيها سعر صرف الليرة مستقرا عالميا عند 1507 ليرة للدولار، فيما وصل داخل لبنان إلى 1800 ليرة للدولار ولعدة أسباب منها:

1- عدم تحرك وزير المال غير المختص بالشؤون المالية لمجابهة استغلال المخاوف من قِبل الصرافين والمصارف.

2- عدم تحرك المصرف المركزي رغم استمرار النداءات والتنبيهات.

3- استمرار نزيف الدولار من لبنان نحو سوريا عبر اللاجئين.

4- قلة وعي الشعب اللبناني بالنسبة للأمور المالية الأساسية، وقلة وطنيّته لناحية دعم اقتصاده عبر دعم الصناعة المحلية والعملة الوطنية.

 دعوني أكون صريحة هنا، وليفكر من يريد كما يشاء بما سأقوله. إن الشعب اللبناني يحب وطنه بالكلام وليس بالفعل. وسأعطيكم مثالا:

في يوم وقف وزير الصناعة اللبناني بيار الجميل رحمه الله، الشاب المتعلم والمثقف الذي اغتيل في مثل هذا اليوم (21 نوفمبر 2006) وقال: "بتحب لبنان، حب صناعته".

بالله دلّوني على شعب يحتاج أن يتم تذكيره بأن عليه دعم صناعته المحلية واقتصاده الوطني لكي يحيا؟

الأوروبيون يحاربون لأجل دعم اليورو.

أميركا تختلق حروبا من العدم لأجل توفير استمرارية لاقتصادها.

حتى الأتراك الذين وقفوا ضد أردوغان باعوا الدولار ليدعموا عملتهم المحلية.

فعند المصائب، الوطن يأتي أولا وليس المظهر أو الحزب أو الزعيم.

أما اللبنانيون، ولكي يبرهنوا على تحضرهم، يبتعدون عن كل ما هو لبناني المنشأ.

وسؤالي هنا: هل كان الصرافون ليستطيعوا ركوب موجة الخوف واستغلالها بالشكل الفاضح الذي حدث لولا سكوت المسؤولين اللبنانيين المعنيين بالشؤون المالية ولولا جهل الشعب اللبناني بأن طلبهم المتزايد على الدولار سيؤدي لما حدث؟

وهل كان سعر صرف الدولار إزاء الليرة، داخليا ليرتفع لو تدخلت الدولة والمصرف المركزي كما يجب ووضعت قيودا على التداول بالعملات الأجنبية إزاء الليرة في مثل هذه الأوقات؟

معظم الشعب اللبناني لم يكن ولن يكون يوما شعبا يستحق السلام طالما أنه يربط نفسه بأسوأ ثلاثة مثاقيل: 

  • الطائفة
  • الحزب السياسي
  • زعيم فاسد

وهذه الخاصية الأخيرة تنطبق على الجميع. فلا أحد يرى زعيمه فاسد وكنت قد شرحت ذلك في مقال سابق "إلّا هُم".

فطالما ولاء اللبنانيين لأي من تلك الخيارات الثلاثة، فهم سيستمرون في مسلسلات التخوين الداخلي، وسيستمرون بمسلسل الاستعداء، وسيستمرون بمسلسل الركون للدعم الخارجي ضد بعضهم بعضاً، وسيتسمر الوضع على ما هو عليه، بضع سنوات من الراحة الظاهرية يتبعها أوقات عصيبة.

أما حان الوقت بعد لكي يستفيق اللبنانيون فيتصرفون بناء على العقل لا الأهواء ويتحركون من منطلق وطني وليس الهرع وراء ما يناسب توجهاتهم الحزبية؟

لو كان الثوار يريدون إحداث تغيير حقيقي فلتقم كل ساحة من ساحات لبنان من الجنوب للشمال مرورا بساحتي الشهداء ورياض الصلح في بيروت وطرابلس شمالا بانتقاء ممثلين عنهم بعيدا عن الأحزاب، ليشكلوا من خلالهم مجلساً مُصغراً يفرض شروطه على المسؤولين ويعين منهم وزراء لإحداث تغيير، على الأقل في المرحلة الأولى.

لا يمكن إحداث تغيير عبر فرض استقالة دون تعيين بديل. ولا يمكن دعم الوطن إذا أمعن أبناؤه في خنق اقتصاده عبر إيصاد أبواب المؤسسات وعبر الهلع ومحاولة سحب الأموال من المصارف. ولا يمكن بناء وطن يقوم ثواره بتخريب ممتلكاته العامة والخاصة.

البوصلة واضحة وعلى الثوار اتباعها. فرض الإصلاحات الحقيقية يكون بعدم الدعوة لعودة الفاسدين للسلطة، والتخلص منهم تدريجيا عبر التعيينات التي إن لم يوافق عليها الشعب فيجب أن لا تمر. وبالتالي يجب العمل نحو تشكيل حكومة مرحلية تضع قانون انتخاب عادل يصوت عليه الشعب ويُصار لانتخابات نيابية مبكرة، شرط عدم قيام الشعب "الثائر" بإعادة التصويت للأحزاب.

نصيحتي: تحبون لبنان؟ إذا أحبّوا صناعته وعملته وعمّاله وابتعدوا عمّا هو غير لبناني أو وطني ومن ضمن ذلك المسؤولون الذين يتبعون الإملاءات الخارجية.