وقت كتابة هذه السطور كان البيان الأول الصادر عن وزارة الخارجية المصرية، يشير إلى أن اجتماع واشنطن الذي جرت مقاديره بعد الدعوة الأميركية لإثيوبيا ومصر والسودان، لمناقشة أزمة سد النهضة، قد أسفر عما أسماه نتائج إيجابية من شأنها ضبط مسار المفاوضات ووضع جدول زمني محدد للمناقشات.
وكي نتوصل إلى بلورة المشهد الآني، فإننا نجمل القراءة في عدة نقاط أساسية، في المقدمة القول بأن واشنطن لا تزال القوة القطبية الكبرى حول العالم، التي لا ترفض لها رغبة او يصد لها طلب، ولهذا فإن إثيوبيا والتي رفضت طلب مصر بشأن الوساطة الدولية أو الشريك الرابع من قبل، لم يسعها إلا أن تلبي رغبة الرئيس دونالد ترامب، وتمضي في طريق واشنطن لمناقشة الإشكالية، لاسيما وإنها إحدى أكبر الدول الأفريقية التي تحصل على مساعدات سياسية وعسكرية من واشنطن.
وهنا نتساءل: ما هو موقف واشنطن من الأزمة في الأصل، وهل هناك توجه ما للبيت الأبيض يمكن أن يستشف منه المرء إلى أين ستمضي أحداث الأيام القادمة؟.
نرى علاقات أميركية وثيقة ولصيقة مع القاهرة، بل لا نغالي إن قلنا إن "الكيمياء" تمضي بين الرئيسيين السيسي وترامب على أفضل وجه، والدعوة الأخيرة التي لبتها الدول الثلاث المعنية بمسألة السد، هي ثمرة طلب مصري من الجانب الأميركي لتفعيل الحضور والنفوذ الأميركي البنّاء، وكان لقاء السيسي وترامب على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة منطلقا لتوجه إلى واشنطن.
وفي الخامس من أكتوبر الماضي صدر بيان عن البيت الأبيض يفيد بضمان واشنطن ودعمها لدول المنبع والمصب في السعي للتوصل إلى اتفاق على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة بما يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث.
البيان عينه تضمن مطالبة واشنطن الأطراف بإبداء حسن النية للتوصل إلى اتفاق يحافظ على الحق في التنمية الاقتصادية والرخاء، وفي الوقت ذاته يحترم بموجبه كل طرف حقوق الطرف الآخر في مياه النيل.
يمكن القول إذن إن الموقف الأميركي ولو ظاهريا على الأٌقل يبدو محايدا، وإن كانت كلمة الحياد هذه قليلة الحظ في عالم السياسة الدولية، غير أن اللحظة الحالية في أفريقيا والشرق الأوسط، ربما تحتم على واشنطن البناء على القوى الناعمة والإيجابية وتجنب أدوات القوة الخشنة.
لدى واشنطن اليوم في العالم القديم صعاب وملفات وصراعات تكفيها، وما تقوم به إيران من تأجيج للأزمات في المنطقة، وعودة للبرنامج النووي يجعل ساكن البيت الأبيض في غنى كبير عن تفجر صراع عنيف ودموي في شمال أفريقيا، لا سيما وأن مسألة المياه هي مسألة وجودية بالنسبة لشعوب لا مصدر لها للبقاء إلا نهر النيل.
من هنا فإن المرء يستطيع أن يتفهم فكرة مظلة الوساطة الأميركية التي تطالب الأطراف الثلاثة بإبداء حسن النية للتوصل إلى اتفاق يحافظ على الحق في التنمية الاقتصادية والرخاء وفي الوقت ذاته يحترم بموجبه كل طرف حقوق الطرف الآخر في مياه النيل، بحسب نص بيان البيت الأبيض>
ولعل البيان المصري يلفت النظر إلى أن ما تم انجازه في يومين في واشنطن، عجزت الأطراف الثلاثة عن التوصل إليه خلال السنوات الخمس الماضية لا سيما بعد اتفاق إعلان المبادئ في 2015.
باختصار تم الاتفاق وفي حضور وزير الخزانة الأميركي ستيف منوتشين، ورئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، على عقد 4 اجتماعات عاجلة مقبلة للدول الثلاث على مستوى وزراء الموارد المائية، بمشاركة ممثلي الولايات المتحدة والبنك الدولي، تنتهي بالتوصل إلى اتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة خلال شهرين بحلول 15 يناير المقبل.
وفي الأثناء سيكون هناك لقاءان في واشنطن بدعوة من وزير الخزانة الأميركي لتقييم التقدم المحرز في هذه المفاوضات.
ولكن السؤال المقلق ماذا لو لم يتم التوصل إلى اتفاق بحلول هذا الموعد؟
جرى الاتفاق على اللجوء إلى المادة 10 من إعلان المبادئ لعام 2015 والمعروفة بمبدأ التسوية السلمية للمنازعات، وفيه تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقا لمبدأ حسن النوايا، وإذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق أو إحالة الأمر لرؤساء الدول أو الحكومة.
بعض الأسئلة المثيرة في المنتصف :"هل يعني اجتماع واشنطن تغيرا في موقف إثيوبيا؟
إن إثيوبيا بقبولها دعوة واشنطن قد قبلت ولو ضمنيا بفكرة الوساطة والطرف الرابع لا سيما في وجود وزارة الخزانة الأميركية وهي التي تقوم على كافة مشروعات واشنطن التنموية والاستثمارية في قارات الأرض المختلفة، وبهذا أضحت الوزارة وسيطا ومراقبا وليس شريكا لإثيوبيا في أي مشروعات من شأنها أن تفقدها صداقة دولة محورية ومركزية مثل مصر، تعتمد عليها الولايات المتحدة الأميركية كثيرا جدا في ضمان حضورها في العالم القديم، وبخاصة في ظل التغير "الجيوبوليتيكي" الذي يعتري العالم حاليا، كما أن وزارة الخزانة الأميركية هي المسؤولة عن تقديم المشورة للرئيس بشأن القضايا المالية الكبرى التي تشارك فيها واشنطن خيوط وخطوط الاقتصاد العالمي.
ومن المسلّم به أنه وفقا للعقلية البراغماتية الأميركية أن تسجل انتصارات للرئيس ترامب حال تدخله في هذا الملف تحديدا، فالرجل محاط بأزمات داخلية عدة قد يكون أحد أوجه الفكاك منها خارجيا، بمعنى تحقيق انتصارات سياسية ودبلوماسية على الصعيد الدولي، والتوصل إلى صيغة سلمية في ملف يتهدد استقرار أفريقيا على هذا النحو، يذكر بانتصار كارتر في التوصل إلى اتفاق كامب ديفيد.
الأمر الآخر هو أن الإقدام "الأميركي الترامبي" في ملف سد النهضة له علاقة مؤكدة بالصحوة الروسية في القارة الأفريقية، ومحاولة موسكو ملء الفراغ الذي تخلفه واشنطن من وراءها كما جرى مع أوباما في الشرق الأوسط، وهنا فإن ترامب يسعى لتأكيد حضور الولايات المتحدة وانتصاراتها الدبلوماسية وسط قارة بكر ستكون ولاشك محل صراع على مواردها وخيراتها من الأقطاب القائمة والقادمة طوال العقود المقبلة، وفي خلفية تدخل البيت الأبيض في ملف سد النهضة إبداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتن استعداده للوساطة بين مصر وإثيوبيا، وفق ما صرح على هامش قمة سوتشي الأخيرة.
وكذلك فإن أي نجاح للقوى الناعمة الأميركية ومنها الأدوات الدبلوماسية يعني تعزيز وضع ترامب في عيون ناخبيه، وانتصار له على ما يرى أنه مؤامرات من الديمقراطيين لعزله، وتأكيد نقاط قوته في طريقه للولاية الرئاسية الثانية.
مهما يكن من أمر فان مياها جديدة جرت في سياق أزمة سد النهضة بلا أدنى شك، والمؤكد أن هناك من المصالح الإيجابية التي يمكن أن توفرها واشنطن تحت مظلتها للدول الثلاث، ما يجعل هناك إمكانية للتوصل لحلول وسط ترضي كافة الأطراف من أجل مستقبل أكثر نموا وازدهارا للجميع، أمرا واردا وبقوة.