محتوى كلمات الرئيس السوداني عمر البشير خلال الأسابيع وربما الأشهر الأخيرة يعتبر - برأي متابعين للشأن السوداني- محملاً ببياناتٍ لحرب قيد الترتيب والإعداد والتنفيذ. إنها قصة موت معلن لاتفاق سلام ظلل ديار السودانيين، لحد كبير، بالاستقرار والسلم لخمس سنوات.

"الخرطوم تحشد للحرب"، هكذا يقول لي شباب التقيتهم هناك. "لقد فتحوا مراكز تجنيد وحشد للشباب للمشاركة في الحرب". لكنهم يقولون لي ايضاً وبإصرار "حرب من هذه؟ ولماذا يكتب علينا مجدداً ان نكون وقوداً لها؟ أليس من سبيل أن نحلم بمستقبل آمن خالٍ من العنف والحروب؟ لقد سئمنا"

حرب من هذه؟ سؤال طاف كثيراً في ذهني، لكن سؤالاً اخر أيضاً لا يبارح تفكيري، هل نحن إزاء حرب واحدة ام حروب كثيرة؟

طبيب يعمل في إحدى مدن السودان قال لي إن رهطاً من الخريجين الجدد الذين يُفرض عليهم أداء خدمة الجندية الإجبارية أُخبروا بأنهم سيفوجون الى بؤر نزاع ساخنة مثل جنوب كردفان وأبيي، حيث احتمالات الموت والحياة تتساوى في أحسن الفروض.

ما يجري في جنوب كردفان هو حربٌ لا حدود ولا ساحة لها. كل الاقليم هو منطقة عمليات تتعارك فيها قوات الحكومة السودانية وميليشياتها من جانب ومسلحو الحركة الشعبية من جانب آخر، ويدفع ثمنها مواطنون ابرياء يتراوح حالهم ما بين الفقر وقلة الحظ في ثروات الدولة المركزية منذ عشرات السنين.

نزاعٌ آخر صامت قد ينفجر في أي لحظة هو نزاعُ بلدة أبيي الغنية بالمراعي والمياه قبل أن تصبح غنية بالنفط. هذا الخلاف تحديداً حُسم سلفاً من قبل هيئة التحكيم الدولية في لاهاي في يوليو تموز العام الفين وتسعة بعد أن حكمت بإعادة ترسيم حدود البلدة الحدودية بناء على احداثيات جديدة صدرت بعد دراسة وافية، وقبل الطرفان بقرار الهيئة قبولاً موثقاً وملزماً. وبرغم ذلك بقيت الأزمة تراوح مكانها في المربع الأول وقد تنفجر حرباً ضروساً في أي لحظة.

نزاعٌ آخر يدور بين الشمال والجنوب حول النفط، وهو جزءٌ من سلةِ نزاعات تضم قضايا كبرى مثل الحدود بين دولتي السودان والجنسية والديون الأجنبية وغيرها. الجنوب أوقف تصدير النفط تماماً بعدما تمسك الشمال بتسعيرة لنقله عبر خط الانابيب تزيد عن خمسة وثلاثين دولاراً للبرميل الواحد، وزاد الوضع ضبابية بعد توالي انهيار المحادثات المشتركة الرامية للتوصل الى اتفاق بين الجنوب والشمال مرة تلو الأخرى. هنا تدور حرب اقتصادية طاحنة تتخللها أيضاً مواجهات مسلحة من حين لآخر، فجنوب السودان إتهم مؤخراً شماله بقصف آبارٍ للنفط، وهو ما أثار قلقاً دولياً برغم نفي حكومة السودان ضلوعها في أي قصف جوي.

إذاً الأمرُ يتعلق بحروب وليس بحرب واحدة. وكل من هذه الحروب، أياً كانت وأينما كانت، تخلّف شرخاً يصعب جسره وجراحاً تصعب مدواتها وتضميدها، وتجربة جنوب السودان تقف شاهدا على ذلك.

الرئيس السوداني عمر البشير نفسه أتى على هذه الجزئية، تحديداً، في كلمته التي القاها في جوبا في التاسع من يوليو حزيران العام 2011 في مناسبة إعلان دولة جنوب السودان. فهو أكد على ضرورة وضع حد لثقافة الحرب والكراهية التي سادت بين جانبي السودان لفترات من الزمن، وأسهب كثيراً في ما يربط أهل السودان من صلات وقرابات. حينها كانت الكلمةُ محملة بالتفاؤل والأمل في مستقبل أفضل.

من هنا يمكن القول إن كل خسارة في هذه الحروب والنزاعات هي خسارة لموارده السودان المادية والمعنوية. فكل شخص يُقتل أو ينزح، وكل بيت يُحرق أو يُنهب، وكل قرية تُجّرف أو تُجفف تخلف مأساة قد تبدو صغيرة في نظر من يجلس بعيداً لكنها كبيرة في نظر من تضرر. أما قرار بدء الحرب، فغالباً ما يصدر من الداخل، فيما القرار بوضع حد لها غالباً ما يأتي من الخارج. وكلا القرارين مكلفان دون شك.