في تطور لافت، يُعاد رسم خريطة التوترات العالمية في بحر البلطيق، حيث تتقاطع المصالح الاستراتيجية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
المنطقة، التي تُعد أحد أعمدة الأمن الأوروبي، تشهد تصعيدًا خطيرًا مع تعزيزات عسكرية غربية وتحركات روسية حذرة، وسط تحول البحر إلى ساحة اختبار جديدة لقوة العقوبات الغربية والقدرات العسكرية الروسية.
الناتو يطلق عملية "حارس البلطيق"
أعلن حلف الناتو عن إطلاق عملية "حارس البلطيق" لتعزيز المراقبة البحرية وحماية البنية التحتية في المنطقة. يأتي هذا التحرك على خلفية تقارير غربية تتهم روسيا بتخريب كابلات بحرية حيوية.
الأمين العام للحلف، مارك روتي، شدد على أهمية الخطوة لمواجهة التهديدات الروسية المزعومة، مؤكدًا أنها ضرورية لضمان أمن الدول الأعضاء. لكن هذه التصريحات تُخفي وراءها تساؤلات حول نوايا الناتو الحقيقية.
ويرى الأكاديمي والباحث السياسي، محمود الأفندي، في هذه العملية "محاولة لاستفزاز روسيا" وإشعال جبهة جديدة في الصراع الممتد بين الطرفين. "الناتو لا يهدف فقط إلى حماية البنية التحتية، بل يسعى لاختبار حدود الرد الروسي واستنزاف موارده الاقتصادية والعسكرية"، يوضح الأفندي.
كالينينغراد.. الخاصرة الرخوة بين المطرقة والسندان
تقع كالينينغراد، المعقل الروسي في بحر البلطيق، على رأس قائمة المناطق الأكثر توترًا. تُحاصرها بولندا وليتوانيا من كل الجهات، ما يجعلها في مواجهة مباشرة مع الناتو.
ومنذ 2013، عززت موسكو وجودها العسكري في المنطقة بنشر صواريخ "إسكندر" القادرة على حمل رؤوس نووية، كرسالة واضحة للحلف الغربي.
"كالينينغراد تمثل الخاصرة الرخوة لروسيا، لكنها أيضًا نقطة ارتكاز استراتيجي في البحر. أي محاولة للمساس بها ستعتبر إعلان حرب"، يعلق الأفندي.
أسطول الظل الروسي في عين العاصفة
الأنظار تتجه أيضًا نحو ما يُعرف بـ"أسطول الظل الروسي"، الذي يُستخدم لتجاوز العقوبات الغربية. يتهم الغرب موسكو باستخدام سفن ترفع أعلامًا أجنبية لنقل النفط إلى دول آسيوية، مثل الهند والصين، في محاولة لتخفيف تأثير العقوبات. لكن التحركات الغربية لمحاصرة هذا الأسطول تُثير جدلًا قانونيًا وسياسيًا واسعًا.
ويقول الأفندي خلال حديثه إلى التاسعة على سكاي نيوز عربية ان ما تقوم به بريطانيا والناتو ضد أسطول الظل يُمكن وصفه بالقرصنة البحرية. الهدف ليس فقط منع روسيا من الالتفاف على العقوبات، بل الاستيلاء على مواردها النفطية.
العودة إلى قواعد اللعبة القديمة
الصراع في بحر البلطيق يُعيد للأذهان النظرية الكلاسيكية التي تقول إن "من يسيطر على البحار يسيطر على العالم". ومع انتقال الصراع من أوكرانيا إلى البحار، يبدو أن الجغرافيا المائية أصبحت ساحة رئيسية لتصفية الحسابات.
ويرى الأفندي في التحركات الغربية خطوة تمهيدية قبل نقل التصعيد إلى مناطق أخرى، مثل بحر الصين الجنوبي، ما يفتح الباب أمام مواجهات أكثر شمولًا.
"ما يحدث في البلطيق ليس إلا بروفة. الغرب يختبر صبر موسكو، وإذا لم ترد روسيا بقوة، فإن السيناريو سيتكرر في مناطق أكثر حيوية مثل بحر الصين الكبير"، يحذر الأفندي.
ما الذي يخبئه بوتين؟
في المقابل، يُدرك الكرملين أن الرد العسكري المباشر قد يُشعل مواجهة شاملة. لذلك، تعتمد موسكو سياسة "الردود المحسوبة" التي تجمع بين التحركات الدبلوماسية والإجراءات الميدانية.
روسيا تُركز حاليًا على امتصاص أثر العقوبات ومحاولة تعزيز شراكاتها مع القوى الآسيوية، خصوصًا الصين والهند، لمواجهة الضغوط الغربية.
"بوتين يُدرك أن اللعبة تتطلب نفسًا طويلًا. الرد العسكري متاح دائمًا، لكن الرد الاقتصادي عبر تعزيز التحالفات قد يكون أكثر فعالية في هذه المرحلة"، يختتم الأفندي.
ويبقى بحر البلطيق اليوم على صفيح ساخن، حيث تتقاطع فيه المصالح بين الناتو وروسيا، مع غياب أي مؤشر على التهدئة. التصعيد العسكري، المحاصرة الاقتصادية، وتحركات أسطول الظل، كلها مكونات لصراع أوسع يتجاوز حدود المنطقة، ليصبح اختبارًا جديدًا لميزان القوى العالمي.