لا أحد ينسى دوره في إنهاء حرب فيتنام، وإعادة هندسة العلاقات بين واشنطن والشرق الأوسط والصين والاتحاد السوفيتي، لكن بالنسبة للشرق الأوسط فهو الأسم الأميركي الأبرز في زمن حرب أكتوبر عام 1973 ومهندس اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية.. هذه أبرز النقاط اللامعة في تاريخ وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، الذي تُوفِّي عن عمر ناهز الـ100 عام.
وقالت مؤسسته الاستشارية في بيان، إنّ كيسنجر، الذي كان وزيرا للخارجية في عهدَي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وأدَّى دورا دبلوماسيا محوريا خلال الحرب الباردة، تُوفّي الخميس في منزله بولاية كونيتيكت الأميركية.
كان كيسنجر تولّى دفّة العلاقات الخارجية لبلاده في وقت تلاطمت فيه أمواج الأزمات السياسية في العالم، وعُرف ببعض تنبؤاته وآرائه المغايرة للتوقعات، منذ قبوله بالتعامل مع الصين الشيوعية، التي باتت تعتبره صديقًا، مرورًا بدوره في عمليّة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1978، ثمّ تنبُّؤه باندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية.
خديعة الحرب
عن خديعة الحرب التي تعرّض لها كيسنجر وهو يبدأ علاقاته بالشرق الأوسط، يروي مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير جمال بيومي، لموقع "سكاي نيوز عربية"، كيف استخدمت مصر مقابلة كيسنجر مع نظيره المصري محمد حسن الزيات، يوم 6 أكتوبر 1973، ضمن خطّتها الشهيرة بـ"الخداع الاستراتيجي"، للتعمية على ميعاد انطلاق الحرب؛ لتُفاجِئ بها إسرائيل والعالم كله:
- طلبت القاهرة عقد لقاء مع وزير الخارجية الأميركي بحجة بحث عقد مفاوضات مع إسرائيل تعيد سيناء دون حرب.
- الحكومة طلبت عقد هذا اللقاء في نفس يوم الحرب؛ من أجل إكمال الخداع الاستراتيجي الذي مارسته القوات المصرية في محاولتها لإخفاء نيّة الحرب وإحداث المفاجأة، بل وإمعانا في السرية، لم يكن وزير الخارجية الزيات نفسه يعرف بموعد الحرب.
- خلال إجراء المباحثات بين الوزيرين، أتت الأنباء بعبور القوات المصرية لخط بارليف (الحاجز المنيع الذي شيّدته القوات الإسرائيلية على طول الضفة الشرقية لقناة السويس لمنع الجيش المصري من عبور القناة إلى سيناء التي كانت تحتلّها إسرائيل حينها) وبَدء الحرب، وعندها غضب كيسنجر؛ لأنه أدرك تعرُّضه لخديعة دبلوماسية، وقال لنظيره المصري "عن أي مفاوضات تتحدَّث والحرب قد بدأت؟".
- لم يكن كيسنجر يتوقع قدرة مصر على شن الحرب، ثم التفاوض من موقع القوة، وقبل أكتوبر حين كانت تطلب مصر من واشنطن الضغط على إسرائيل، كان يقول للحكومة المصرية إن عليكم التفاوض مع إسرائيل بأنفسِكم.
- ولكن بعد انتصار مصر في الحرب، أصبح هو عرّاب اتفاقية "كامب ديفيد" التي أسّست للسلام بين مصر وإسرائيل.
ويصف بيومي كيسنجر بأنه حتى بعد تركه عمله الرسمي ظل حتى وقت قريب "رقما صعبا في الدبلوماسية الدولية".
ويتضح ذلك في مبادرة وزير الخارجية السابق لزيارة الصين، يوليو الماضي، وهو في عمر المائة عام، ولقائه الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الذي رحّب به كثيرا بشكل فاق الترحيب بالمسؤولين الأميركيين الحاليين، مشيدا بدوره في دعم علاقات البلدين في السابق.
اعتراف كيسنجر
في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، اعترف كيسنجر مجدّدا بأنه فوجئ بالحرب، قائلا لصحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، سبتمبر الماضي، إنه لم يكُن يتوقع أن يفعلها المصريون.
وتوقَّع كيسنجر أنّ الإسرائيليين "سيسحقون" المصريين خلال ساعات، لكن هذا لم يحدُث؛ ما دفع واشنطن لتسيير جسر قوي ضخم لإنقاذ الموقف الإسرائيلي بأحدث الأسلحة.
قوّة السّلطة
عُرِف عن كيسنجر حبّه للقوة، وأن يكون دائما من المؤثرين، وربما هذا مما دفعه للعب أدوار مهمة في العلاقات الدولية حتى بعد تقاعده عن العمل الرسمي.
وعنه يقول الكاتب الصحفي المصري الراحل، محمد حسنين هيكل، في كتابه "كلام في السياسة": "عرف بالدرس أن القوة عنصر جاذبية لا يقاوم، لكنه لم يتصوّر إلى أي مدى إلا حين أصبح مستشارا للأمن القومي للرئيس، ثم وزيرا للخارجية، ثم نِجما في السياسة الدولية، وحينئذ اكتشف أن لديه عوامل إثارة لم يعرفها عن نفسه من قبل".
مَن هو كيسنجر؟
- وُلد في 27 مايو 1923 في فورتسبورغ بألمانيا، ثم انتقل صغيرا للولايات المتحدة.
- شغل منصب مستشار الأمن القومي، ثم وزير الخارجية من عام 1973 إلى 1977 في إدارتي الرئيس ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد.
- اشتُهر بدوره في إعادة ترتيب العلاقات بين واشنطن والاتحاد السوفيتي خلال فترة الحرب الباردة، وكذلك في التقارب مع الصين، والتسوية في فيتنام.
- له مؤلّفات تشتهر بتحليلها العميق للشؤون الدولية، ومن بينها "دايبلوماسيا" الذي نُشر في عام 1994، ويستعرض فيه تاريخ الدبلوماسية العالمية.
- بعد مغادرته الحكومة، أسّس كيسنجر مؤسسة Kissinger Associates، وهي شركة استشارية دولية، كما ظل نشطا في السياسة العامة، خاصة تقديم المشورة إلى الرؤساء الأميركيين.
- حصل على جائزة نوبل في السلام عام 1973 لدوره في التفاوض لإنهاء حرب فيتنام.