فيما تتواصل الحرب الروسية الأوكرانية على مدى نحو نصف عام، محدثة جملة أزمات وتحولات دولية عميقة، يحتدم النقاش حول شكل العالم وطبيعة النظام الدولي ما بعد هذه الحرب، والتي يعتبرها مراقبون وخبراء من طينة الحروب الكبرى التي غيرت وجه العالم وطبيعة توازناته وتحالفاته وحتى خرائطه.
وفي أحدث القراءات لشكل العالم ما بعد الحرب الأوكرانية، قال رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير، إن حرب أوكرانيا أظهرت أن هيمنة الغرب تشهد نهايتها في ظل صعود الصين لتكون قوة عظمى بالشراكة مع روسيا في أوضح نقاط التغير في المشهد العالمي منذ قرون.
وأضاف بلير، الذي شغل منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة عن حزب العمال البريطاني في الفترة من 1997 وحتى 2007، أن "العالم في مرحلة تحول في التاريخ يمكن مقارنتها بنهاية الحرب العالمية الثانية أو انهيار الاتحاد السوفييتي، لكن هذه المرة وبوضوح الغرب ليس في الكفة الراجحة".
ووفقا لنص خطاب ألقاه في منتدى لدعم التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا في محاضرة حملت عنوان "بعد أوكرانيا، ما الدروس الحالية للقيادة الغربية؟"، قال بلير "نحن نشهد نهاية الهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية".
وتابع قائلا: "سيصبح العالم ثنائي القطب على الأقل أو متعدد الأقطاب، التغيير الجيوسياسي الأكبر في هذا القرن سيأتي من الصين وليس من روسيا".
وللحديث حول عالم ما بعد حرب أوكرانيا وشكل النظام الدولي التالي لها، يقول مسعود معلوف الدبلوماسي السابق والخبير بالشؤون الأميركية، في لقاء مع سكاي نيوز عربية: "بلير رجل دولة وسياسة متمرس، والذي بقي لمدة طويلة يحكم 10 داوننغ ستريت، حيث يتمتع بخبرة عميقة وبشبكة علاقات دولية واسعة ولديه مراكز دراسات مرموقة، ولهذا فتصريحاته وقراءاته السياسية تحظى دوما بأهمية كبيرة".
متابعا :"فالحرب الأوكرانية يبدو واضحا أنها ستطول ولا نهاية قريبة لها وفق مختلف المعطيات الميدانية والسياسية، سيما في ظل عجز الروس بعد مضي أكثر من 5 أشهر عن حسم الموقف حيث تقتصر سيطرتهم على المناطق الشرقية والجنوبية الأوكرانية، والتي يقطنها أوكرانيون من أصول روسية، ولهذا ستتعمق الاصطفافات الدولية المتضادة على وقع الحريق الأوكراني، وهنا فالصين تندرج في محور مشترك مع روسيا ضد المحور الغربي، ونتذكر هنا زيارة بوتن لبكين قبيل بدء هذه الحرب، وتأكيد البيان الختامي الصادر عن قمته مع نظيره الصيني عن أن تحالفهما هو بلا حدود وأنهما يسعيان لعالم متعدد الأقطاب".
وعن توقعات بلير بأن تكون الصين هي القطب العالمي الموازي للغرب، يقول معلوف :"كان يفترض بالصين أن تصبح خلال أقل من 10 سنوات الاقتصاد الأول بالعالم متخطية الاقتصاد الأميركي، لكن اندلاع الأزمة الأوكرانية وما نجم عنها من تبعات كارثية، كبح هذا التطور الصيني الجامح حيث سجل نموها الاقتصادي هذا العام 0.4 في حين أن نسبه عادة كانت تتراوح من 8 إلى 14 في المئة طيلة السنوات الماضية، وهكذا فواشنطن تعمل على منافسة الصين ومحاربتها ليس عسكريا وإنما اقتصاديا بالدرجة الأولى، وهي لن تتنازل عن موقعها الريادي كالقطب الأقوى عالميا لصالح الصين التي تعتبرها خصما وليس تهديدا كما هي حال روسيا".
ويسترسل الدبلوماسي السابق: "الصين بلغت أساسا ما بلغته من قوة بفضل تركيزها على الاقتصاد وعدم الإيغال في خيارات العسكرة والتسلح والتوسع، وهذا يعني أنها ليست بتلك القوة والقدرات العسكرية كي تغدو ندا للولايات المتحدة، رغم أنها متطورة جدا في شتى المجالات ولا سيما في مضامير التكنولوجيا والفضاء".
ويضيف معلوف: "الغرب تتضعضع مكانته رويدا رويدا ولا شك، وواشنطن في هذا السياق تشعر بالطبع بتراجع نفوذها وتأثيرها كقطب أوحد حول العالم، وهي تحاول تدارك ذلك عبر محاولة تعزيز تحالف ضفتي الأطلسي الأميركية والأوروبية لمواجهة التحالف الروسي الصيني المتصاعد، وهكذا فالصين ستلعب دورا قياديا عالميا في المستقبل غير البعيد، وروسيا سيتراجع دورها لكنه سيبقى دورا أساسيا في لعبة التوازنات والتناقضات الدولية، وبهذا سيتمكن التحالف الصيني الروسي وبدعم من بعض الدول كالتي ضمن مجموعة البريكس من الوقوف بوجه المحور الغربي والأطلسي ومواجهته بقوة، لكن الأمور لن تنزلق نحو حدوث مواجهات عسكرية مباشرة بين المحورين، وتاليا اندلاع حروب عالمية مدمرة".
في المقابل، يقول ماهر الحمداني الباحث الخبير في الشؤون الأوروبية، في حديث مع سكاي نيوز عربية: "العالم بالفعل ومنذ مدة ليست وجيزة بات متعدد الأقطاب، حيث الصين التي يعلم الجميع أنها قطب عالمي قائم بذاته ولا يخضع للقطب الغربي، وكذلك روسيا التي أثبتت أنها خصم ومنافس عنيد للكتلة الغربية وقوة عالمية محورية ومؤثرة تعتمد على نفسها وعلى مواردها الذاتية الهائلة، وستبرز أقطاب أخرى ما بعد هذه الأزمة كالهند التي تحدت المطالب الغربية لها باتخاذ موقف مضاد لروسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية".
وهكذا، يضيف الحمداني: "فمرحلة القطب الواحد الأميركي قد انتهت حتى قبل وقوع الحرب بأوكرانيا، والعالم بدأ يفرز أقطابه الجديدة ومراكز قواه المتعددة، وعليه فبلير محق (وهو شاهد من أهلها) في قوله إن الغرب ليس هو القوة الصاعدة الآن، حتى أن ثمة مؤشرات وشواهد متواترة على أن الغرب نفسه قد لا يبقى كتلة واحدة، بمعنى أن الاتحاد الأوروبي باتت لديه مصالح ورؤى وأولويات مختلفة عن نظيرتها الأميركية، وريما قد نشهد في المرحلة المقبلة تمردا أوروبيا على هيمنة واشنطن على توجهات القارة العجوز".
كما وأشار بلير خلال تصريحاته إلى أن "حرب أوكرانيا أوضحت بما لا يدع مجالا للشك أن الغرب لا يمكنه الاعتماد على الصين لتتصرف بطريقة نعتبرها عقلانية".
وذكر: "مكان الصين كقوة عظمى طبيعي ومبرر. إنها ليست الاتحاد السوفياتي"، لكنه قال إن "على الغرب ألا يسمح للصين بالتفوق عسكريا".
وأضاف: "علينا أن نزيد من الإنفاق الدفاعي ونحافظ على التفوق العسكري"، مشيرا إلى أنه يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها "أن تكون لهم الغلبة (عسكريا) بما يكفي للتعامل مع أي احتمال أو نوع من الصراع في كل المناطق".