في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، تدور تساؤلات بشأن موقف الصين مما يجرى، فرغم علاقتها الوثيقة مع موسكو إلا أنها لم تبد رسميا أي انحياز بل اتخذت مواقف أقرب إلى الوسطية ضمن ما اعتبره محللون "سياسة منتصف العصا" مراعاة لتحالفاتها ومصالحها.
فرغم البيان الصيني الروسي الذي صدر في 4 من فبراير عقب زيارة فلاديمير بوتن إلى بكين وشهد الإعلان عن" شراكة استراتيجية وصداقة بلا حدود" ورفض توسع حلف الأطلسي، جاءت تأكيدات وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، قبل أيام بضرورة احترام أراضي الدول وسيادتها بما في ذلك أوكرانيا مع وجوب التعامل بشكل مناسب مع مخاوف موسكو وهو النهج نفسه الذي اتبعته الصين خلال ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014.
ويبلغ حجم التبادل التجاري الصيني مع موسكو أكثر من 140 مليار دولار، إضافة إلى العلاقات الوثيقة مع روسيا في مجالات الطاقة والتسليح والمواقف السياسية المشتركة في التصدي للهيمنة الأميركية، في المقابل تعد الصين الشريك التجاري الأول لأوكرانيا وترغب بحسب مسؤوليها في الحفاظ على علاقات جيدة مع كييف.
وتحدثت تقارير استخباراتية أن الصين كانت على علم مسبق بالعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا وطلبت من كبار المسؤولين الروس الانتظار حتى انتهاء أولمبياد بكين قبل بدء الهجمات، فيما نفت السفارة الصينية في واشنطن صحة التقرير، مؤكدة أن "المزاعم المذكورة في هذا التقرير مجرد تكهنات لا أساس لها، تهدف إلى تحويل اللوم وتشويه سمعة الصين".
وكشفت صحيفة "نيويورك تايمز" أن هناك مكاسب استراتيجية واسعة لبكين من الحرب الحالية أولها أن فرضية احتمال انتقال عدوى موسكو إلى بكين في تعاطيها مع تايوان، أي شن حرب لاستعادتها، وكذلك إدراك الصين أنها ستكون هدفا للحلف الأطلسي مستقبلا مثلما هو الحال مع روسيا في الوقت الراهن، وأيضا تعزيز بكين علاقتها مع موسكو عبر شراكات وتحالف حيث تدرك رهان موسكو عليها للتقليل من تأثيرات العقوبات الاقتصادية.
ووفق محللين فإنه منذ زحف القوات الروسية إلى أوكرانيا، سارت الصين فيما يسميه العديد من خبراء السياسة الخارجية على حبل مشدود دبلوماسيا، فهي مضطرة إلى مساعدة روسيا وليس لديها اهتمام كبير برؤية موسكو تنهار اقتصادياً، بينما تحاول التمسك بمبادئ سياستها الخارجية حول السيادة وكذلك محاولة منع علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا من الانهيار التام كون أن انفتاح الصين على واشنطن وحلفائها هو الذي دفع النمو الهائل لها في العقود الأربعة الماضية.
سياسة الحياد ودعوة للوساطة
وفي عملية توازن بين قربها السياسي من موسكو ودفاعها التقليدي عن "سيادة وسلامة أراضي" الدول، رفضت بكين الموافقة على قرارين لمجلس الأمن والأمم المتحدة يدينان العملية العسكرية الروسية لكنها لم تصوت ضدّهما أيضًا بل لجأت إلى الامتناع عن التصويت.
والاثنين، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي إن "الصداقة بين الشعبين الصيني والأوكراني متينة جداً وآفاق التعاون المستقبلي للجانبين واسعة جداً"، مضيفاً أن الصين سترسل مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا وهي "على استعداد للعمل مع المجتمع الدولي للقيام بالوساطة اللازمة".
ووفق تحليل للكاتب مو تشونشان نشرته مجلة "ذا ديبلومات" الأميركية المختصة بالشأن الآسيوي فإن الولايات المتحدة تشعر بقلق بالغ إزاء تفاعلات روسيا والصين في مواجهة الأزمة الأوكرانية.
ويرى مو تشونشان أن القلق الأميركي مفهوم، لكن يبدو أن بعض المسؤولين الأميركيين يخطئون في الحكم على العلاقات الصينية الروسية والسياسة الخارجية الأوسع للصين، فالصين وروسيا ليسا حليفين عسكريين، وبعبارة أخرى، عندما يكون أحد الجانبين في حالة حرب، لا يتحمل الطرف الآخر أي التزام تعاهدي أو قانوني بالمساعدة، وهذا يختلف تمامًا عن التحالفات العسكرية بين الولايات المتحدة وبلدان حلف شمال الأطلسي (الناتو).
لذلك، فإن الصين ليست ملزمة بدعم روسيا، والواقع أن الصين لم تدعم موقف روسيا علانيةً خلال أزمة القرم قبل 7 سنوات.
وفي إجابته عن السؤال المطروح، إذا كانت الصين ضد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، فلماذا لم تنتقد بكين روسيا كما فعل الغرب؟ يوضح الكاتب انتقاد الصين العلني لروسيا سيضر بالعلاقة بين البلدين في ضوء الصداقة الصينية الروسية.
وفي هذا الوقت، يتعين على بكين إظهار التضامن، بدلًا من التأكيد على الاختلافات، فهذه مسألة تتعلق بالمكانة والمهارات الدبلوماسية، وستعبر الصين عن موقفها الحقيقي خلف الأبواب المغلقة.
سياسة منتصف العصا
ويقول الخبير في الشؤون الدولية والاستراتيجية أنس القصاص إن بكين تستخدم سياسة منتصف العصا بإظهار الموقف الحيادي وحث جميع الأطراف للعودة إلى طاولة المفاوضات وإجراء الحوار وفي ذات الوقت معارضة فرض العقوبات المفرطة على روسيا.
وأضاف القصاص، في حديث لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن الصين أحد المستفيدين من الأزمة في أوكرانيا كون أن الأطراف المتصارعة كلهم منافسوها والجميع سيحاول أن تميل كفتها تجاهه ومن ثم هي لن تخسر روسيا التي لم يعد لها ملجأ غيرها وكذلك لن تغامر بسوق استهلاكي يلتهم أكثر من ثلتي إنتاجها وهو الغرب.
وأوضح أن الصين موقفها باهت في الأزمة فهي تخشى اتخاذ موقف يحسب عليها حال اتخذت نفس الموقف في تايوان وكذلك تخشى أن تظهر انحيازها بشكل كامل لروسيا، لافتا إلى أن امتناعها عن التصويت كونها تعرف أن روسيا تملك حق الفيتو ومن ثم أن موقفها سيحسب عليها ولن يجدي.
بدوره، قال المحلل السياسي أميد شكري، لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن السياسة الرسمية للصين بشأن الأزمة كانت حذرة ودقيقة في خطابها الدبلوماسي، مع عدم وجود دعم لروسيا باستخدام القوة العسكرية ضد جارتها السوفيتية السابقة، لكن وسائل الإعلام الحكومية التي تغطي الأزمة كانت أكثر صراحة حيث تتزايد المشاعر المعادية للغرب في الصين.
وأضاف شكري، كبير مستشاري السياسة الخارجية وأمن الطاقة في مركز "تحليلات دول الخليج" (مقره واشنطن)، أن الصين وروسيا تقتربان من بعضهما البعض هذه الأيام ربما يكونان أقرب مما كانا في عهد ستالين وماو، ويُنظر إلى أزمة القرم عام 2014 في أوكرانيا على أنها دفعت روسيا إلى أحضان الصين، التي قدمت دعمًا اقتصاديًا وسياسيًا لروسيا وسط عزلة دولية.
وتابع: "منذ ذلك الحين، ازدهرت العلاقة، وبلغت التجارة الثنائية بينهما ذروتها عند 147 مليار دولار العام الماضي. كما وضع البلدان خريطة طريق مشتركة لتوثيق العلاقات العسكرية العام الماضي مع زيادة المناورات العسكرية المشتركة، وتشترك بكين وموسكو في مصلحة مشتركة في دفع الولايات المتحدة وأوروبا إلى الوراء واكتساب دور أكبر لهما في السياسة الدولية".
ومضى قائلا: "في حال تصاعد الصراع الذي أدى إلى فرض عقوبات غربية على روسيا، فإنه من المرجح أن تستمر بكين في تقديم المساعدة الاقتصادية لروسيا، يمكن أن يشمل ذلك توفير أنظمة دفع بديلة، أو إقراض البنوك والشركات الروسية، أو شراء المزيد من النفط الروسي".
واختتم حديثه بأنه "يمكن للصين أن تلعب دورًا مهمًا في حل الأزمة الأوكرانية بسبب علاقاتها الجيدة مع روسيا، لكن المؤكد أن الصين لا تفكر إلا في مصالحها الوطنية في هذه الأزمة".