تفرض مجموعة من "الحسابات المعقدة" نفسها على حيثيات السياسة الألمانية المتبعة إزاء أزمة أوكرانيا، ما بين كون برلين طرفا في الصراع (باعتبارها عضو في حلف الناتو، وفي خضم التهديدات التي تواجه الاتحاد الأوروبي)، وبين كونها وسيطا يُمكنه أن يلعب دورا منفردا أو عبر رباعية النورماندي؛ من أجل التهدئة وحل الأزمة؛ تفادياً لتداعيات شديدة الخطورة.
وانعكست تلك "الحسابات المعقدة" على الموقف الألماني من مسألة تسليح كييف، بعد أن اكتفت برلين بإرسال 5 آلاف خوذة عسكرية لأوكرانيا، بينما على الجانب الآخر تتلقى أوكرانيا معدات وأسلحة استراتيجية من قبل واشنطن ودول أوروبية أخرى. وفي الوقت نفسه تهدد ألمانيا الجانب الروسي بأثمان باهظة حال غزو أوكرانيا.
وتلعب برلين دوراً محورياً في أزمة كييف، لجهة النظر إليها كطرف من الأطراف المتضررة من الموقف الروسي، وفي الوقت نفسه يمكن أن يُعول عليها في لعب دور الوسيط. وربما كان ذلك أحد أسباب رفض برلين تسليح أوكرانيا، بالتزامن أيضاً مع "القيود الصارمة" التي يفرضها النظام الأساسي للقانون الألماني على صادرات الأسلحة، لا سيما إلى مناطق النزاعات، وهو ما جدد التأكيد بشأنه مؤخرا المستشار الألماني أولاف شولتز في مقابلة مع صحيفة "واشنطن بوست"، ذكر خلالها أن تلك القيود تحول دون تسليح أوكرانيا، حتى أن الحكومة السابقة (بقيادة ميركل) التزمت كذلك بتلك القيود.
قيود قانونية
المادة 26 من الدستور الألماني (تحت عنوان تأمين السلام الدولي) في فقرتها الثانية نصت على عدم جواز تصنيع الأسلحة المصممة للحرب أو نقلها أو تسويقها إلا بإذن من الحكومة الاتحادية.
وتبزغ أربعة عوامل أساسية وراء الموقف الألماني المدفوع بحساباته المعقدة، أولها القيود التي يفرضها قانون مراقبة أسلحة الحرب بخلفياته التاريخية، وثاني تلك العوامل مرتبط بالاستراتيجية التي تغلف أداء الدبلوماسية الألمانية في الميل نحو "الحلول السلمية" للأزمات الخارجية عوضاً عن الصراعات المسلحة.
إضافة إلى العامل الثالث المرتبط بمحاولة برلين -عبر سياسة العصا والجزرة- تقديم نفسها كوسيط لحل الأزمة. وأخيرا، العامل الرابع المرتبط بالمصالح الاقتصادية بالنسبة لألمانيا، والعلاقات الاقتصادية التي تجمعها وموسكو، سواء ما يتعلق بملف الغاز الروسي وارتباطاته ووصولاً إلى مصالح الشركات الألمانية.
حلول تفاوضية
يتحدث خبير العلاقات الدولية أكرم حسام، في تصريحات خاصة لموقع "سكاي نيوز عربية"، عن الوضع المركب بالنسبة لألمانيا إزاء أزمة أوكرانيا.
يشير حسام إلى أن "ألمانيا تلعب الدورين معاً.. هي طرف في أزمة أوكرانيا باعتبارها عضو في حلف الناتو ومقر القيادة الأميركية الأوروبية، وباعتبارها أيضاً أكبر قوة أوروبية في حلف الناتو حالياً على المستوى الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي.. والدليل على كونها طرفا أيضاً تصريحات المستشار الألماني عند زيارته للولايات المتحدة، والتي تحدث فيها بشكل واضح أن روسيا ستدفع ثمناً غالياً إذا قررت غزو أوكرانيا، والوسيط في الغالب لا يتدخل في الصراع بهذه الصورة".
ويتابع: "لكن في الوقت نفسه، فإن الحسابات المعقدة للموقف الألماني تجعل الحديث منصباً على احتمالية أن يكون لألمانيا دور في تهدئة الأزمة (دور أقرب للتهدئة وليس الوساطة).. خصوصاً أنها عضو في مجموعة النورماندي مع روسيا وأوكرانيا وفرنسا"، موضحاً أن الدور الألماني في أزمة أوكرانيا في عهد ميركل كان أقرب إلى الوساطة، لكن الموقف تغير في عهد المستشار شولتز وفي ضوء التغيرات التي شهدها النظام السياسي في برلين.
دوافع داخلية
ويشير خبير العلاقات الدولية في الوقت نفسه إلى أن تلك الحيثيات تنعكس على الموقف من ملف تسليح أوكرانيا؛ ذلك أن "جزءاً من الموقف الألماني الخاص بالاعتراض على تسليح كييف مرتبط بالداخل الألماني بالأساس؛ نتيجة رفض أحزاب لهذه السياسة مع التركيز بشكل أكبر على ملفات حقوق الإنسان".
ويلفت في الوقت نفسه إلى وجود جماعات ضغط داخل ألمانيا تتبنى وجهة النظر الروسية، وتتمثل في منظمات وجماعات ونخب موجودة حالياً داخل دائرة صنع القرار الألماني.
كما يبرز خبير العلاقات الدولية في الوقت نفسه، أن ما يعزز الموقف الألماني بخصوص التسليح هو "الرؤية الألمانية لخطورة الصراع نفسه على ألمانيا وأوروبا بشكل عام، وخطورة تسليح أوكرانيا، مع احتمالية أن يشجع ذلك الحكومة الأوكرانية على التشبث الموقف، في وقت يبدو فيه الخط الاستراتيجي الحالي للحكومة الألمانية قائماً على محاولة جمع الطرفين على طاولة المفاوضات عبر جهود محسوبة بدقة".