يثير خط أنابيب بحر البلطيق نورد ستريم 2، لغطاً واسعاً داخل أوروبا والولايات المتحدة، منذ أن تم الإعلان عنه كمشروع لأول مرة في العام 2015 وحتى الانتهاء من تنفيذه قبل نهاية العام الماضي في انتظار الحصول على تصاريح التشغيل؛ ذلك في ظل المخاوف الأوروبية والأميركية لجهة ما يشكله هذا الخط كسلاح جيوسياسي كبير بيد الكرملين، وبما يعزز نفوذ الدب الروسي في القارة العجوز.

ورغم ما يحظى به "نورد ستريم 2" من أهمية قصوى بالنسبة لألمانيا كآلية مستدامة لضمان الطاقة فيها، وكذا الاتحاد الأوروبي بشكل عام، إلا أن المخاوف والانتقادات الأوربية لم تهدأ إزاء المشروع الذي ظل عنواناً رئيسياً لموجات من الشد والجذب بين القوى الأوروبية والولايات المتحدة من ناحية وروسيا من ناحية أخرى، وقد لوّحت ألمانيا والولايات المتحدة أخيراً بإيقاف الخط حال أقدمت موسكو على اجتياح أوكرانيا.

ألمحت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، الخميس، إلى اتجاه برلين لفرض عقوبات قد تستهدف خط أنابيب "نورد ستريم 2" حال أي غزو لأوكرانيا، في الوقت الذي أعلن فيه أيضاً المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس أن "خط أنابيب نورد ستريم 2 بين روسيا وألمانيا لن يمضي قدماً إذا غزت موسكو أوكرانيا".. فما قصة هذا الخط المثير للجدل؟ وما أهميته؟ وما هي الأطراف المستفيدة والمتضررة منه؟

الغاز الروسي

خط أنابيب بحر البلطيق "نورد ستريم 2" هو ثاني خط غاز يربط روسيا بشمال ألمانيا، بموازاة مسار الخط الأول الذي بدأ العمل خلال العام 2011، بما يكرس اعتماد برلين بشكل أساسي على واردات الغاز الروسية؛ ذلك أن الخط الثاني -على امتداد 1230 كيلومتر تحت بحر البلطيق- يُضاعف إمدادات الغاز الروسي إلى ألمانيا بأسعار منافسة.

ومن المخطط أن ينقل "نورد ستريم 2" ما مجموعه 55 مليار متر مكعب من الغاز إلى ألمانيا (لتتضاعف إجمالي كميات الغاز الروسي إلى ألمانيا وصولاً إلى 110 مليار متر مكعب سنوياً)، ليُنقل الغاز من ألمانيا إلى باقي دول غرب أوروبا عبر شبكة الغاز الطبيعي.

بلغت تكلفة الخط تقريباً نحو 11 مليار دولار أميركي، وتُديره حصراً شركة "غازبروم" الروسية العملاقة، وشاركت في تمويله خمس شركات؛ على رأسهم شركة "شيل" الهولندية، إضافة إلى "انجي" الفرنسية و"أو. أم. في غروب" النمساوية، جنباً إلى جنب و"يونيبر" و"وينترشال ديا" الألمانيتين.

تم الإعلان عن المشروع في 2015 -بعد عام من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في مارس 2014- وبدأ العمل فيه خلال شهر أبريل من العام 2018، ثم توقف لفترة في ديسمبر 2019، قبل أن يتم استئناف الأعمال بعد عام من التوقف.

وفي شهر سبتمبر 2021 تم الإعلان عن الانتهاء من الأعمال التنفيذية للمشروع، لكن الوكالة الألمانية للشبكات علقت المصادقة عليه بالتزامن مع اللغط الكبير المثار حوله، بالنظر إليه كسلاح روسي جديد ضد الاتحاد الأوروبي.

وتوقع رئيس الوكالة غوشين هومان، آنذاك، استمرار عملية الموافقة على خط أنابيب الغاز حتى النصف الثاني من العام 2022.

روسيا وأوكرانيا.. أهم بنود اتفاق مينسك
روسيا والغرب.. خيار العقوبات

مشروع اقتصادي

وبرغم المخاوف الواسعة، لا تجد برلين بداً من إتمام المشروع وبدء عمل الخط الثاني، وتعتبر أن "نورد ستريم 2" إنما هو مشروع اقتصادي قبل كل شيء وبعيد عن السياسة، بحسب تصريحات المستشار الألماني أولاف شولتس، في نوفمبر 2021، عندما رفض ربط السماح بتشغيل الخط بمساعي التهدئة في الأزمة الأوكرانية.

لكن الولايات المتحدة تقول إن خط الأنابيب يشكل "سلاحاً روسياً جيوسياسياً بوجه أوروبا، على شكل مشروع اقتصادي، بما يجعل القارة العجوز رهينة لموسكو"، على حد تصريحات سابقة للسفير الأميركي في برلين، وهو ما ذكره في الوقت نفسه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي،في أغسطس الماضي عقب لقائه مع المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل.

وفي السياق، كانت واشنطن قد هددت بفرض عقوبات على السفن أو الشركات المشاركة في المشروع، وفرضت بالفعل عقوبات -إبان فترة الرئيس السابق دونالد ترامب- على إحدى الشركات، وهي العقوبات التي رفعتها إدارة الرئيس بايدن بعد ذلك.

وفي شهر يوليو من العام الماضي 2021 توصلت الولايات المتحدة وألمانيا إلى اتفاق حول خط الغاز المثير للجدل، تضمن تعهداً ألمانياً باتخاذ تدابير فعالة (من بينها فرض عقوبات على روسيا) إذا حاولت الأخيرة استخدام الطاقة كسلاح أو لارتكاب أعمال عدوانية أخرى ضد أوكرانيا. لكن مع ذلك لن تهدأ مخاوف عديد من الدول الأوروبية إزاء الأبعاد الجيوسياسية للمشروع والمخاطر التي تلف أوروبا.

المسار

يقطع "نورد ستريم 2" خمس دول؛ هي (روسيا وألمانيا والدنمارك وفنلندا والسويد) عبر منطقة أوست لوغا في خليج فنلندا، ليمتد في بحر البلطيق ويصل شمال شرق ألمانيا عند مدينة غرايفسفالد، وبما يخنق كييف اقتصادياً، ذلك أنه كان يمر بها جزء كبير من الغاز الروسي في طريقه إلى أوروبا، الأمر الذي عزز من وضعية أوكرانيا وأهميتها الجيوسياسية، وحال بدء الخط الجديد فإن كييف ستفقد جزءاً كبيراً من تلك الأهمية، علاوة على خسائر اقتصادية بالغة.

طموحات روسية

وفي السياق، يقول المحاضر بمعهد العلاقات الدولية بجامعة نيجني نوفغورد الروسية، عمرو الديب، في تصريحات خاصة لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن روسيا تولي اهتماماً كبيراً بمشروع "نورد ستريم 2"؛ لكي يتم ربط سوق الغاز الأوربية بشكل كامل مع روسيا، ومن أجل زيادة اعتماد أوروبا على روسيا في مجال الغاز، بما يسمح لروسيا بشكل أو بآخر التأثير على بعض الدول الأوربية، وزيادة التعاون الأوروبي الروسي بشكل أوضح.

ويشير المحلل السياسي في الوقت نفسه إلى أن موسكو "تريد زيادة تفاعلها مع دول أوروبا بشكل منفصل، وليس مع الاتحاد الأوروبي ككتلة، والهدف من ذلك تكسير الوحدة الأوروبية لصالح زيادة التعاون الروسي مع الدول الكبرى داخل الاتحاد الأووبي"، موضحاً أن مشروع "نورد ستريم 2" يشكل تعاوناً روسياً ألمانياً صرفاً، ولولا هذا التعاون ما وصل المشروع إلى مراحله النهائية الآن في انتظار بعض التصاريح.

ويعتقد الديب بأنه حال بدء العمل "سيكون ذلك مكسباً جيوسياسياً كبيراً لروسيا والقيادة الروسية"، موضحاً أن "هذا المشروع ليس نقطة خلاف، إنما يأتي من ضمن مناطق الضغط الغربي على روسيا، ذلك أن الولايات المتحدة عندما تريد الضغط على موسكو نسمع منها تصريحات بأنه سيتم إيقاف المشروع وتوقيع عقوبات على الشركات المشاركة فيه.

لكنه يشدد على أن "المشروع وصل إلى مرحلته النهائية، وألمانيا استثمرت فيه أموالاً كثرة وليس فقط روسيا، ولذلك فإن المشروع سيكتمل حتماً لحاجة أوروبا الفعلية للغاز الروسي.. ويبدو أن هناك اتفاقاً ألمانياً روسياً أميركياً لإتمام الأمر في حالة عدم اجتياح روسيا لأوكرانيا، فإذا اجتاحت روسيا أوكرانيا سيكون إيقاف الخط أولى القرارات الغربية التي تتم ضد روسيا".