عندما احتفلت دولة جنوب السودان باستقلالها عن السودان في التاسع من يوليو 2011، كان كثيرون يأملون في رؤية دولة مزدهرة ومستقرة خلال سنوات قليلة، نظرا لما تتمتع به من موارد طبيعية ضخمة، لكن اليوم ومع حلول الذكرى العاشرة للاستقلال تسود حالة من الإحباط الشديد بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
جاء انفصال جنوب السودان بعد حرب أهلية استمرت نحو 60 عاما، قتل وشرد خلالها أكثر من 4 ملايين شخص، وأهدرت فيها موارد تقدر بنحو 600 مليار دولار.
واندلعت الحرب في الجنوب عام 1955 عندما تمرد بعض أعضاء الفرقة الجنوبية من الجيش السوداني، حيث كانت هناك شكوك لدى الجنوبيين على سياسات الزعيم الراحل إسماعيل الأزهري الذي ترأس أول حكومة سودانية بعد الاستقلال.
وفي العام 1958 طالبت الأحزاب الجنوبية وعلى رأسها "حزب سانو" باستقلال الجنوب، احتجاجا على سياسات تبناها الرئيس الأسبق إبراهيم عبود عقب انقلابه على السلطة بعد نحو عامين من استقلال السودان.
وشهد العام 1963 تحولا ملحوظا عندما تم تشكيل حركة "أنانيا" كحركة متمردة في الجنوب، وقادت حربا استمرت نحو 8 سنوات تخللتها عدة مؤتمرات للسلام.
وفي 1972 هدأت الحرب مؤقتا بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا التي منحت الإقليم الجنوبي حق الحكم الذاتي في إطار سودان موحد، لكنها اندلعت مجددا في 1983عندما أعلن العقيد جون قرنق انشقاقه عن الجيش السوداني والانضمام إلى المتمردين الجنوبيين وتأسيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان".
واشتعلت الحرب بشكل أعنف في 1984، خلفية إعلان نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري تطبيق ما عرف بـ" قوانين سبتمبر".
وفي نوفمبر 1988، تم توقيع اتفاق سلام بين قائد الحركة الشعبية شمال جون قرنق وزعيم الحزب الاتحادي المشارك في الائتلاف الحكومي آنذاك.
ويرى كثيرون أنه كان من الممكن أن يحافظ ذلك الاتفاق على وحدة البلاد، لكن انقلاب عمر البشير عام 1989 قطع الطريق أمام مبادرات السلام.
ويعتبر العام 1990 المحطة الأهم التي ترتبت عليها كافة التبعات التي أدت لانفصال الجنوب، حيث أعلن نظام البشير الحرب في الجنوب، مما قاد لنزاع استمر 15 عاما، وكانت الفترة تلك الأسوأ من حيث الخسائر، وولدت غبنا في أوساط الجنوبيين مما قاد لاحقا للانفصال.
وفي التاسع من يناير 2005 وقعت الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية سلام شامل في ضاحية نيفاشا الكينية قرب العاصمة نيروبي.
ونصّ الاتفاق على إجراء استفتاء عام 2011 لتقرير المصير، وهو الاستفتاء الذي صوت فيه أكثر من 90 في المئة لصالح الاستقلال، ليصبح جنوب السودان في التاسع من يوليو 2011 أحدث دولة في الخريطة العالمية.
أسباب التصويت
ويعدد السياسي مهدي رابح المهتم بالشأن الجنوبي، مجموعة من الأسباب التي أدت إلى التصويت بنسبة تقارب الإجماع على الانفصال، أهمها "الإحساس بالتهميش والظلم الذي امتد لعقود، نتيجة لانعدام الرؤية لدى السياسيين السودانيين الذين أداروا البلاد منذ الاستقلال، والوعود والمواثيق والأحلام المجهضة، ثم موجات الحروب التي ترجع أسبابها في الأساس إلى مشروع الرؤية الأحادي للوطن والفشل التام في إدارة التنوع".
ويرى رابح في حديث لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن الاستفتاء "أجري على عجل دون حوار كاف، وشارك فيه مجتمع لا يملك حرية قراره، ووجّه بوعود الثروات التي سيوفرها إنتاج النفط، وهو وعد لم تستطع تلك النخبة الإيفاء به حتى الآن، رغم مرور 10 سنوات كاملة على الانفصال".
معاناة كبيرة
وشهدت السنوات العشر الأولى من تاريخ دولة جنوب السودان التي تعتبر الأحدث في الخارطة العالمية، الكثير من المعاناة، بسبب الانتهاكات المرتبطة بالصراع والمجاعة والفيضانات والأمراض.
ووفقا لتقارير المنظمات الدولية، فإن الملايين من السكان عاجزون في الوقت الحالي عن الحصول على ما يكفي من الغذاء لإطعام أنفسهم أو أسرهم.
وبسبب المعاناة الهائلة التي سببها استمرار الحروب والنزاعات الأهلية، أصبح جنوب السودان من أكبر بلدان العالم تلقيا للمعونات الإنسانية، وتوقفت عجلت التنمية فيه تماما.
وقالت دول الترويكا (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج) التي أشرفت على توقيع السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية شمال في 2005، التي تضمنت حق تقرير المصير الذي أفضى لاستقلال جنوب السودان بشكل كامل في 9 يوليو 2011، إنه "من المحزن للغاية ألا يتحقق الوعد بالسلام والازدهار الذي قطع عند الاستقلال قبل 10 سنوات".
وأشارت "الترويكا" إلى أن التحدي الكبير الذي يواجه جنوب السودان الآن هو "استعادة الشعور بالوحدة والقوة والأمل الذي ساد قبل عشر سنوات".
أوضاع اقتصادية متردية
ورغم مرور 10 سنوات على الاستقلال، فإن اقتصاد دولة جنوب السودان لا يزال يعاني من أزمات كبيرة.
ومن المتوقع أن يستمر الاقتصاد في تسجيل معدلات نمو سالبة خلال العامين المقبلين على الأقل، وذلك بسبب تراجع إنتاج النفط الذي يشكل المورد الرئيسي لاقتصاد البلاد.
ويعتمد اقتصاد دولة جنوب السودان على النفط في 98 في المئة من دخله، ويقدر متوسط إنتاجه بنحو 155 ألف برميل يوميا في الوقت الحالي مقارنة بنحو 600 ألف برميل قبل الاستقلال.
وتأتي الزراعة في المرتبة الثانية، لكن هذا القطاع يواجه مشكلات كبيرة، إذ أنه وبحسب منظمة الأغذية والزراعة، فإن دولة جنوب السودان تستغل اقل من 6 في المئة من الأراضي الصالحة الزراعة.
ووصل معدل الفقر في جنوب السودان خلال السنوات الأخيرة إلى نحو 66 في المئة، حيث يعيش أكثر من 6 ملايين من سكان البلاد البالغ تعدادهم نحو 11 مليون نسمة بأقل من دولارين في اليوم.
وفقا للصحفية هيباي جمعة، فإن دولة الجنوب لم تنعم بالرخاء والازدهار المنشود رغم الموارد الطبيعية الضخمة التي تتمتع بها البلاد.
وتقول جمعة لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن "حالة عدم الاستقرار واستمرار الحرب الأهلية، إضافة إلى عجز الدولة عن استخدام الموارد بالطريقة المثلى وانتشار عمليات الفساد، كلها عوامل عطلت التنمية في الدولة الوليدة".
وتشير جمعة إلى "حالة من الإحباط في أوساط معظم سكان الجنوب، رغم الفرحة التي سادت خلال سنوات الاستقلال الأولى، لكنها تعبر عن أملها في انتهاج سياسة رشيدة تؤدي إلى تحسين الأوضاع الداخلية، والاستفادة من التطور الكبير الذي طرأ في العلاقة مع دولة السودان، الذي يمكن أن يؤدي إلى ازدهار تجاري واقتصادي خلال السنوات المقبلة".
دوامة العنف
تعد الحروب الأهلية ودوامة العنف المستمرة من أكبر العقبات التي تشكل عقبة أمام استقرار وازدهار جنوب السودان، إذ تشير إحصاءات إلى مقتل نحو 400 ألف شخص بسبب النزاعات والحروب وأعمال العنف التي اندلعت خلال السنوات العشر الماضية التي أعقبت استقلال البلاد.
وعلى الرغم من اتفاق السلام الموقع العام الماضي بين رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار، فإن تقديرات المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية تشير إلى أن 75 في المئة من البلاد لا تزال غارقة حتى الآن في العنف.
وبحسب تقرير نشره المركز الأسبوع الماضي، فإن دولة جنوب السودان "لم تحدث تقدما يذكر في إنشاء أي من آليات العدالة الانتقالية".
كذلك أشار تقرير أصدره مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في فبراير الماضي، إلى "استمرار مستويات مذهلة من العنف في جنوب السودان للسنة الثانية على التوالي".