يشكل الحكم القضائي الصادر أخيراً عن محكمة العدل الأوروبية بإقرار حق فنزويلا في الاستئناف ضد العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي عليها، ومن ثمّ إبطال حكم سابق صادر عن المحكمة العامة، بارقة أمل لكاراكاس من أجل إعادة ترتيب العلاقات مع الاتحاد الأوربي، والمضي قدماً في طريق رفع العقوبات، على وقع جملة من التطورات التي شهدتها تلك الدولة اللاتينية خلال السنوات الأخيرة.
تتضمن تلك العقوبات التي فرضت بداية في العام 2017: حظر تصدير السلاح أو أي معدات يمكن استخدامها في أعمال القمع الداخلية، فضلاً عن عقوبات على عشرات المسؤولين في كاراكاس تتعلق بتجميد الأرصدة ومنع السفر.
وبعد الأحداث الساخنة التي شهدتها فنزويلا منذ يناير 2019 وأزمة الصراع على السلطة، تأزمت العلاقات بين كاراكاس والاتحاد الأوروبي بصورة أكبر، على وقع تبني الاتحاد موقفاً مناوئاً للسلطات في فنزويلا، وإعلان اعترافه بزعيم المعارضة جوان جايدو رئيساً للبلاد، بعد أن أعلن الأخير -وهو رئيس الجمعية الوطنية (البرلمان) آنذاك- في 23 يناير نفسه رئيساً بالوكالة.
تبنى الاتحاد سلسلة من الإجراءات ضد فنزويلا، ضمن مواقف دولية متشددة تزعمتها واشنطن، إزاء الوضع في كاراكاس. فيما يعاني البلد من تبعات العقوبات المفروضة عليه على صعيد الأوضاع الداخلية، ما فرض جملة من الصعوبات.
ومرّت العلاقة بين فنزويلا والاتحاد الأوربي منذ يناير 2019 بشكل خاص وحتى اللحظة بسلسلة من التطورات وحلقات الشد والجذب، بلغت ذروتها من خلال المواقف الأوربية ضد كاراكاس، والتي ردت عليها فنزويلا دبلوماسياً على أكثر من صعيد، كإعلان الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أن سفيرة الاتحاد الأوربي "غير مرغوب فيها" ومطالبتها بالمغادرة.
لكنّ شهر يوليو من العام الماضي 2020 شهدت تراجعاً في حدة المواجهة، واتفق الطرفان على المحافظة على "تعزيز الاتصالات الدبلوماسية على أعلى مستوى" في إطار تعاون جدي تحكمه قواعد القانون الدولي، كما تراجعت فنزويلا عن طرد سفيرة الاتحاد. وأسقط الاتحاد -عملياً- اعترافه بزعيم المعارضة خوان غوايدو "رئيسا مؤقتا" لفنزويلا بعد أن فقد الأخير منصبه كرئيس للبرلمان في الانتخابات الأخيرة.
إجراءات قانونية
استند الحكم الصادر منتصف الأسبوع الماضي إلى كون الإجراءات المتخذة ضد كاراكاس جاءت بنتائج غير المراد منها، وأثرت بشكل مباشر على الناس وعلى الوضع الصحي والإنساني بشكل عام داخل فنزويلا، ومن ثمّ أقر الحكم بضرورة إعادة النظر في الإجراءات.
هذا وفق ما تؤكده المحامية في القانون الدولي في كاراكاس، إيزابيل فرنجية، والتي تشرح في تصريحات خاصة لموقع "سكاي نيوز عربية"، معنى الحكم الصادر من محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوربي، وتقول إن "الحكم ألغى حكماً سابقاً صادراً عن المحكمة العامة كان يحرم فنزويلا من الحق في الطعن قانونياً في الإجراءات التقييدية الصادرة ضدها، ومن ثمّ إعادة القضية للمحكمة للنظر فيها".
وتشير إلى أن "الحكم أقر حق فنزويل في الطعن في التدابير التقييدية ضدها، وبالتالي لها حق الاستئناف عليها"، موضحة أن كاراكاس سبق وقدمت استئنافاً ضد الحكم الصادر عن المحكمة العامة، طالبت فيه بإلغاء الإجراءات التقييدية المفروضة عليها لأنها تؤثر بطريقة مباشرة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمعنوي داخل فنزويلا وتؤثر على وضع حقوق الإنسان، وذلك بالنظر إلى الإجراءات التي اعتمدها مجلس الاتحاد الأوروبي في 13 نوفمبر 2017، كما قدمت فنزويلا تمديداً لطلب الإلغاء ليشمل لائحتين جديدتين اعتمدهما المجلس لتمديد التقييد الجزائي على كاراكاس، وقد رفض الاستئناف حين قدم في السادس من فبراير 2018.
وتوضح فرنجية أن حكم المحكمة استند إلى مسألة قانونية، وهي أن فنزويلا باعتبارها ليست عضواً بالاتحاد الأوروبي فإنها ليس لديها الحق أو ليست مؤهلة للتصرف بشكل قانوني ضد التدابير التي اعتمدها الاتحاد، وبالتالي لا يمكنها الطعن، علاوة على أن فنزويلا لم تثبت أن العقوبات أثرت على الداخل بشكل مباشر.
خطأ قانوني
وفي شهر نوفمبر 2019 قدمت فنزويلا لمحكمة العدل التابعة للاتحاد الأوربي استئنافاً للنقض على حكم المحكمة العامة، وقد أقرت محكمة العدل -الثلاثاء الماضي- أن المحكمة العامة ارتكبت خطئاً قانونياً، وأنه يتعين إعادة النظر في الحكم. وأشارت إلى أن تلك الإجراءات أثرت على قدرة فنزويلا على شراء السلع والخدمات، في وقت الجائحة، وأنه أمام هذا الحصار الاقتصادي لم تتمكن كاراكاس من ابتياع تلك السلع المُهمة مثل الغذاء والدواء في وقت يواجه فيه العالم جائحة عالمية.
أما لجهة الخطأ القانوني الذي تحدث عنه حكم محكمة العدل، فإنه يتلخص -وفق المحامية في القانون الدولي- في مسألة أن "هذا الحكم أريدت به نتيجة كان لها تأثير سلبي على وضع آخر (..) كان مفعول هذا الحكم له تأثيره غير المطلوب منه .. هذا الخطأ القانوني جاء تبعا لتأثيرات سياسية خارجية ومصالح دولية ومصالح اقتصادية ومصالح تحالفية ضد الداخل الفنزويلي.. بمعنى أن التضييق الاقتصادي والتقييد على الدولة لم يؤثر على الحكام (المسؤولين) إنما أثر بطريقة مباشرة على الوضع الداخلي الفنزويلي والاجتماعي والإنساني والصحي".
أبعاد سياسية
والعلاقات بين فنزويلا والاتحاد الأوروبي هي علاقات "متشنجة"؛ نظراً لطبيعة الأوضاع السياسية التي تشهدها هذه الدولة اللاتينية منذ عهد الرئيس السابق هوغو تشافيز، وفي ظل التوتر الكبير مع المحيط الإقليمي، خاصة مع الولايات المتحدة الأميركية، والتي تعتبر هذه الدولة حديقة خلفية لها، وتبعاً لذلك فإن "الاتحاد الأوروبي" غالباً ما يسترشد بالسياسة الأميركية تجاه بلدان أميركا اللاتينية، ومنها فنزويلا.
هذا ما يؤكده في تصريحات خاصة لموقع "سكاي نيوز عربية" الباحث في العلاقات الدولية، الخبير في شؤون أميركا اللاتينية، د.حمدي أعمر حداد، والذي يشير إلى أن "فنزويلا شهدت أحداثاً كبيرة خلال الفترة الماضية تخللتها مناوشات ومحاولة انقلابية، ثم تدخل أجنبي عنيف من قبل واشنطن، بلغ حد تلويح مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس الأميركي السابق ترامب، جون بولتون، بإثارة احتمال التدخل العسكري في كاراكاس".
ويلفت الخبير بشؤون أميركا اللاتينية إلى أن "الاتحاد الأوربي يسير على نهج السياسة الأميركية، وحاول خنق النظام البوليفاري في كاراكاس، وكانت له مجموعة من الإجراءات، من بينها مسايرة إدارة ترامب في الاعتراف بزعيم المعارضة في فنزويلا خوان جايدو رئيساً مؤقتاً شرعياً للبلاد، ثم تبع ذلك إصدار عقوبات ضد النظام في كاراكاس، منها تجميد أصول 19 شخصاً (تم زيادة عدد المشمولين بالعقوبات بعد ذلك لتصل إلى 55 شخصاً) بتهمة خرق حقوق الإنسان وقمع المتظاهرين، فضلاً عن حظر تصدير الأسلحة أو أي معدات مماثلة.
ويضيف: "اللافت للنظر أن فنزويلا -في خطٍ متوازٍ مع الإجراءات الدبلوماسية التي اتخذتها للرد على القرارات الأوروبية- هو اللجوء إلى المسار القانوني، إذ لم تحتفظ بسحب السفراء وطرد ممثلي الاتحاد الأوربي، فحركت الدعوى التي رفضتها المحكمة العامة الأوربية في 2019، وهي ثاني أعلى محكمة بالاتحاد، ثم جاءت المفاجأة من خلال الحكم الصادر قبل أيام من محكمة العدل الأوروبية، التي أيدت حق فنزويلا في طلب إلغاء العقوبات، وهو ما يعيد القضية من جديد للنظر فيها".
الحكم -في تصور حداد- إنما "يفتح بارقة أمل حول آلية التعامل بين الطرفين"، لا سيما أن هناك مسألتين يتعين التركيز عليهما؛ المسألة الأولى هي أن الدول الأوربية لم تكن جميعها على نفس الموقف تجاه كاراكاس، مستشهداً بمواقف دول مثل إيطاليا واليونان وأسبانيا، لم تكن تتبنى نفس الاتجاه الأوربي ضد النظام في فنزويلا. أما المسألة الثانية فمرتبطة بالسياسات المغايرة التي استشف الاتحاد الأوروبي أن الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن يتبعها تجاه فنزويلا، ما شجع الأوربيين على العمل بشكل منفصل مبتعدين عن قراراتهم السابقة، ومعتمدين على نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في فنزويلا، ومن ثم إلغاء الاعتراف بخوان جايدو.