منذ أن أعلن الرئيس التُركي، رجب طيب أردوغان، عن رغبة بلاده إنشاء قواعد عسكرية في أذربيجان، بعد زيارته الأخيرة إلى هناك، تتوالى التصريحات والتحذيرات من قِبل المسؤولين الروس، الذين اعتبروا الأمر مساً بالأمن القومي الروسي من طرف.
وينظر مسؤولون روس، إلى المساعي التركية بمثابة مس بالتوازنات السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية لمنطقة جنوب القوقاز، حيث تملك روسيا نفوذاً في كافة المجالات، وتعتبرها جزء حيوياً من حزامها الآمن.
وكان المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، قد كشف خلال تصريحات خاصة بأن بلاده تراقب بقُرب التحركات التُركية الهادفة لإنشاء مناطق عسكرية في دولة أذربيجان، شارحاً الرؤية الروسية الكاملة لتلك المسألة.
وقال المسؤول الروسي "نرى في تكوين بُنى ذات هوية عسكرية لدولة عضو في حلف الناتو لقواعد عسكرية بالقُرب من حدود البلاد ما يثير الاهتمام، ودافعاً لاتخاذ مجموعة من الخطوات المناسبة، لضمان أمن وسلامة ومصالح دولتنا.
ويجري أخذ تصريحات المتحدث باسم الرئاسة الروسية في العادة على أنها الموقف الشخصي والنهائي للرئيس الروسي فلاديمير بوتن نفسه، أي الجهة السياسية الأعلى.
تحذير صريح
لكن المُلاحظ هو أن تصريحات المتحدث الروسي قد حملت بُعداً تهديدياً مباشراً لأذربيجان في حال قيامها بمثل ذلك تلك الخطوة "نعتقد أن أي خطوات يجب أن تسهم في مواصلة استقرار الوضع في جنوب القوقاز وتطوير البنى التحتية واللوجستية ومعالجة الوضع بشكل عام دون أن تشمل أي عناصر من شأنها أن تتسبب في زيادة التوترات".
في غضون ذلك، أدلى باقي المسؤولين الروس، من وزير الخارجية ووزارة الدفاع الروسية بتصريحات مطابقة لما صدر عن مؤسسة الرئاسة.
وكانت التصريحات التركية بشأن إمكانية بناء قواعد عسكرية تركية ثابتة في أذربيجان قد جاءت بعد ثلاثة أحداث رئيسية، مما أثار قلقا لدى روسيا.
وجاءت هذه التصريحات بعد الحرب الأرمنية-الأذربيجانية الأخيرة، التي تعرضت فها أرمينيا لما اعتبر "هزيمة" عسكرية، وحصلت فيها أذربيجان المتحالفة مع تركيا على "انتصار عسكري".
ويأتي هذا المسعى التركي عقب الاتفاق الثلاثي الروسي الأذربيجاني الأرمني، الذي أوقف الحرب بين البلدين، وتعهد بأن يكون لروسيا دور عسكري في تلك المنطقة، لفض النزاع وإعادة ترتيب المنطقة عسكرياً، بحيث تكون هي الجهة الوحيدة الفاعلة عسكرياً.
ويأتي التصريح أيضا عقب الاجتماع الأخير لحلف الناتو في العاصمة البلجيكية بروكسل، والذي شهد إعادة ترميم لعلاقة تركيا مع الحلف.
مصالح روسية
الباحث التركي المختص في الشؤون السياسية، غالب أوندورو، شرح في اتصال هاتفي مع سكاي نيوز أسباب المخاوف الروسية المتجددة من القواعد العسكرية التركية في أذربيجان "المشكلة في أن هذا التصريح التركي الأخير يأتي في ظل حدثين عسكريين آخرين تنخرط فيهما تركيا عسكرياً خلال الفترة الأخيرة، وكلاهما يتعارضان مع المصالح والأمن القومي العسكري الروسي".
وأضاف أن "تركيا توافقت مع الولايات المُتحدة علناً بشغل مساحة عسكرية واسعة في أفغانستان عقب انسحاب الولايات المُتحدة من هناك عما قريب، ذلك الفراغ الأفغاني الذي كانت روسيا تأمل بأن تحجز جزء من النفوذ داخله".
ويُضيف أوندورو في حديثه "كذلك فإن تركيا صعدت خلال الفترة الماضية من تنفيذ مشروعها الخاص ببناء ممر مائي بديل يربط البحر الأسود ببحر مرمرة، الأمر الذ أثار مخاوف روسيا من إمكانية انسحاب تركيا من الاتفاقيات الدولية المُقيدة لسلطتها على تلك الممرات البحرية الهامة بالنسبة لروسيا، كونها الوحيدة التي توصل السفن الروسية إلى المياه الدافئة. لأجل ذلك، تحس روسيا بأنه ثمة تحركات عسكرية شاملة لحلف الناتو في محيطها الحيوي، وإن عبر تركيا، ولذا تستعد لاتخاذ خطوات مضادة".
القواعد العسكرية التركية المزمع بناؤها، وحسب باقي القواعد العسكرية التركية في مناطق مُختلفة من العالم، ستكون على الأغلب مراكز للتدريب ونشر رادارات المراقبة وطائرات الدورن المحدثة، التي تركز عليها تركيا في السنوات الأخيرة كسلاح استراتيجي، وكل تلك التفاصيل تثير حفيظة روسيا.
لكن المراقبين لمثلث المشهد العسكري الروسي التركي الأميركي، يتوقعون بأن تكون القواعد العسكرية التركية في أذربيجان بمثابة خطوة تركية أولية لنقل منظومة S400 الدفاعية التي اشترتها من روسيا إلى تلك القواعد، وبالتالي، تجاوز واحدة من أكبر معضلات تعكير علاقة تركيا مع حلف الناتو، وبمثابة تصفية تامة لمستويات الثقة التي كانت تجمع تركيا بروسيا عقب صفحة شراء تركيا لهذه المنظومة الدفاعية.
القواعد العسكرية التركية في أذربيجان، في حال دخولها حيز التنفيذ، حسب المعاهدة التركية الأذربيجانية الأخيرة، التي وقعها الطرفان خلال الزيارة الأخيرة لأردوغان إلى أذربيجان، تأخذ طابعاً للتحالف العسكري، حسبما جاء في النص الرسمي للاتفاقية، الأمر الذي يعني بأن أذربيجان قد تحولت من موقع التوازن الذي كانت تحاول أن تشكله بين النفوذين الروسي والأميركي في تلك المنطقة، ليكون خاضعاً بشكل تام ومطلق للتحالفات الاستراتيجية لتركيا، وهو ما يشكل حرجاً ومزاحمة للنفوذ الروسي في منطقة القوقاز.
أستاذ العلوم السياسية تاراس كوزيو، والمختص بالشؤون الروسية التركية، أعاد عبر مقالة تحليلية كتبها في صحيفة "حُرييت" التركية الحساسية الروسية من هذه القواعد العسكرية التركية إلى التناقض الجوهري بين مصالح وتطلعات الطرفين الروسي والتركي في منطقة القوقاز.
وأوضح الباحث أن التصارع الواضح بينهما بمثابة بنية دائمة الحضور هناك "منذ نهاية حرب كاراباخ الثانية وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أواخر العام الماضي، تعايشت تركيا وروسيا في أذربيجان في مركز مراقبة مشترك وقوات "حفظ السلام" الروسية في شمال كاراباخ.
وأضاف كوزيو "كان ذلك ظرفاً استثنائياً وغريباً للعلاقة بين الطرفين. "خصوصاً من جانب روسيا، التي لطالما نظرت إلى الفضاء السوفييتي السابق منذ عام 1991 على أنه مجال نفوذها الحصري. كانت روسيا حساسة بشكل خاص تجاه توسع الناتو والاتحاد الأوروبي في هذه المنطقة".
وأضاف أن التعايش غير العادي بين تركيا وروسيا في أذربيجان يتعارض مع تيار التاريخ، "خاض العثمانيون والروس 12 حربًا بين القرنين السادس عشر والعشرين. تركيا عضو في الناتو ولديها ثاني أكبر جيش وتستضيف قاعدتين عسكريتين أمريكيتين. لطالما كان الاتحاد السوفياتي وروسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي ينظران إلى الناتو على أنه تهديد لأمنهما القومي، هذه كل المسألة".