على المتوقع تماماً، تصاعدت وتيرة الخلاف بين فرنسا والمملكة المتحدة "بريطانيا" فجأة، على خلفية التوتر بشأن حقوق وآليات الصيد الجديدة بالقرب من جزيرة جيرسي البريطانية بعد خروج المملكة المتحدة من منظومة الاتحاد الأوروبي.
الجزيرة الصغيرة التي تقع ضمن القنال الإنجليزية وتتبع السيادة البريطانية، لكنها أقرب للسواحل الفرنسية في منطقة النورماندي (16 كيلومتراً فقط)، حيث احتج صائدو الأسماك الفرنسيون على هذه القواعد الإجرائية التي فرضتها بريطانيا، وهددوا بالتوجه إلى القرب من سواحل الجزيرة ومحاصرة مينائها البحري، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى الإمر بإرسال سفينتين للحراسة تابعتين للبحرية الملكية البريطانية إلى المنطقة القريبة من الجزيرة، لمراقبة الاحتجاجات، حيث ردت فرنسا بإرسال زورقين بحريين إلى المياه المحيطة بالجزيرة، قال المتحدث باسم خفر السواحل الفرنسية لوكالة الأنباء المحلية بأنه إجراء تشترك فيه شرطة الدرك والحراسة البحرية. حيث صعدت فرنسا الموقف ضد المملكة المتحدة، مذكرة بنيتها قطع الكهرباء عن الجزيرة، حسبما ذكرت وزيرة البحرية الفرنسية أنايك جيراردان.
الأزمة السياسية/العسكرية بشأن الجزيرة الصغيرة، التي لا تتجاوز مساحتها 120 كيلومتراً مربعاً، أعادت للأذهان تاريخياً دامياً للصراعات بين الدولتين بشأن السيادة على واحدة أو أخرى من المناطق المشتركة بين البلدين، أو مناطق أخرى من العالم.
حتى أن جزيرة جيرسي التي اندلع التوتر الأخير بشأنها، هي واحدة من تركات ذلك الصراع الطويل الذي امتد لقرون كثيرة. فالجزيرة كانت جزء من "دوقية النورماندي" التي كانت تقع غرب فرنسا، واحتلتها بريطانيا فيما بعد، وحينما خسرت الحُكم عليها خلال حروب أوائل القرن الثالث عشر، منحت الجزيرة حُكم ذاتياً، التي بقيت ذات رمزية بالعلاقة مع السيادة والتاج البريطاني.
من جانبه، استبعد الباحث في مركز الدراسات الأوروبية يوسف حملان أن يصل التوتر الحالي بين الدولتين إلى مستويات الصدام العسكري.
وعلل ذلك بمتانة المؤسسات الأوروبية، وقدرتها على ضبط الخلافات بينها وبين بريطانيا، وقد اُثبت ذلك من خلال مفاوضات الخروج الماراثونية التي جرت بينهما طوال العامين الماضيين.
لكن حملان أضاف في حديث مع "سكاي نيوز عربية" "لكن ذلك لا ينفي الأهمية الاستراتيجية للجزيرة بالنسبة للبلدين، فالجزيرة تشكل بوابة القنال الإنجليزي بالنسبة لبريطانيا، وقد كان احتلالها عام 1940 من قِبل الجيش النازي "الألماني" أهم آلية للحصار البحري الشهير الذي فُرض على بريطانيا طوال الحرب العالمية الثانية، وفصل اتصال بريطانيا بالعالم الأوروبي، والنُخب السياسية والاقتصادية والعسكرية البريطانية الراهنة عايشت تلك المرحلة الصعبة.
مشاهد الزوارق الحربية المتقابلة بالقرب من جزيرة جيرسي، وما سبقتها من تصريحات سياسية متبادلة لقادة البلدين، ما فتح في الذاكرة العامة وعلى صفحات التواصل الاجتماعي تاريخ الصراعات العسكرية المديدة بين البلدين، التي قال عنها المؤرخ البريطاني إيريك هوبزباوم بأنها الحروب التي شكلت تاريخ القارة الأوروبية، ومنها تاريخ العالم.
فخلال الحربين العالميتين الشهيرتين، التي دخلها البلدان كطرف واحد في مواجهة ألمانيا، فإن التاريخ شهد واحداً وعشرين حرباً بين البلدين خلال القرون العشرة الأخيرة، حسبما تذكر موسوعة المعارف البريطانية، بمعدل حرب مُدمرة كل 5 عقود، مما حولهما إلى أكثر بلدان العالم حروباً فيما بينها على الأطلاق.
وفي تقريرها عن تاريخ الحروب، يذكر المعهد الأوروبي للدراسات الأمنية "ISS" بأن 3 حروب مشتركة بين البلدين كانت استثنائية التأثير، بطريقة جرّت معها كل الدول الأوربية، وأحياناً العالم، للانخراط فيها، فالدولتان خلال تلك الحروب الثلاث كانت إمبراطوريتان عالميتان، وكان الصراع بينهما يمثل مواجهة بين الأقطاب العالمية.
حرب المائة عام الطويلة بين البلدين، التي جرت منذ أواسط القرن الرابع إلى أوسط القرن الخامس عشر أطول تلك الحروب وأكثر تأثيراً.
فبسبب المطالب البريطانية بالاستيلاء على العرش في فرنسا، اندلعت سلسلة حروب مدمرة بين البلدين خلال تلك الفترة، انتهت بالهزيمة البريطانية وخروج قواتها من مناطق البر الفرنسية الحالية.
كانت تلك الحرب استثنائية من حيث استخدامها للأسلحة النارية الحديثة وقتئذ، بالذات سلاح المدفعية.
كذلك رآها المؤرخون أولى الحروب التي أوجدت الهوية الوطنية لسكان الدولتين، وهي المقدمة التي اعتبروها فيما بعد أساس النهضة الأوروبية.
الحرب الكُبرى الأخرى بين البلدين اندلعت في أواخر القرن الثامن عشر. فالسيطرة الاستعمارية البريطانية كانت قد اجتاحت تقريبا كامل العالم وقتئذ، مما كاد أن يحولها إلى قوة قادرة على الهيمنة من جديد على كامل أوروبا، بما في ذلك فرنسا نفسها.
يذكر أن الحرب بين البلدين بدأت عام 1778، عبر مناوشات عسكرية على جزيرة جيرسي نفسها، حيث كادت البحرية البريطانية أن تندفع نحو البر الفرنسي، لولا المعاهدة التي وقعتها فرنسا مع الولايات المتحدة، التي كانت قد تحررت حديثاً من الاستعمار البريطاني.
كذلك فإن إسبانيا التي كانت في حالة صراع مع بريطانيا قد دخلت الحرب بعد عامين من اندلاعها إلى جانب فرنسا، مما أوجد نوعاً من التوازن في المواجهة بين الطرفين.
يُسمي بعض المؤرخين تلك الحرب بأنها الحرب العالمية الأولى فعلياً، لأنها شملت كامل العالم، من القارة الأوروبية إلى الهند وإفريقيا وأميركا الشمالية، حيث كانت تتواجه القوى الموالية لواحد من الإمبراطوريتين في معارك ضارية لأكثر من 4 أعوام.
فالحرب الباهظة انتهت بمساومة وتنازلات بريطانية لصالح فرنسا، بعد أن شهدت مُدن بريطانيا احتجاجات مدنية على تلك الحرب، وقد كانت المرة الأولى التي تتمكن فيها القوى الشعبية المدنية من التأثير على مسار الحروب.
وكانت الحرب الطويلة التي اندلعت بين البلدين عقب انتصار الثورة الفرنسية الكُبرى 1789، هي آخر تلك الحروب الشهيرة والمدمرة بينهما، فقد قادت بريطانيا مجموعة كبيرة من الدول والقوى السياسية الأوروبية المناهضة للأفكار الثورية الفرنسية، خصوصاً بعد تولي نابليون بونابرت زعامة فرنسا، حتى أن المؤرخين المعاصرين يسمونها بالحروب النابليونية.
وخلال الفترة الممتدة من عام 1804 وحتى عام 1815 شملت تلك الحرب كافة المناطق الأوروبية، بما في ذلك روسيا وشرق القارة الأوروبية.
فالقوى التي كانت تقول عن نفسها ثورية وتطالب بمجموعة من الحقوق وأشكال الحُكم، كانت تؤيد فرنسا وتحارب إلى جانبها، بينما كانت بريطانيا تساند القوى التقليدية الأوروبية "الاقطاعية"، التي كانت تخشى من الأفكار الثورية الفرنسية، وتعتقد بأنها يجب أن تخنقها في مهدها، إلى أن انتهت الحرب بمعاركة واترلو الشهيرة، التي خسرت فيها قوات بونابرت، وتم توقيع معاهدة باريس الثانية.