حالها حال الكثير من دول العالم، عاشت فرنسا عاماً استثنائياً بانتشار وباء كورونا وما خلفه من ركود اقتصادي غير مسبوق منذ عقود، فيما عادت الهجمات الإرهابية إلى واجهة الأحداث وما رافقها من جدل يتعلق بالجاليات المسلمة في فرنسا.
منذ أن أعلنت الحكومة الفرنسية في 24 يناير عن أول إصابة بفيروس كورونا، دخلت البلاد في موجة من انتشار الوباء على نطاق واسع أدى إلى حجر صحي شامل وإغلاق كامل منذ منتصف مارس وإلى حدود منتصف شهر مايو، خلف أضراراً اقتصادية كارثية.
ومع عودة الحياة إلى طبيعتها في فصل الصيف، شهد العديد من القطاعات كالسياحة والثقافة وقطاع المطاعم والفنادق انهياراً غير مسبوق، زادت حدته مع إعادة فرض الإغلاق الشامل نهاية شهر أكتوبر.
ويبلغ إجمالي الإصابات في فرنسا 2 مليون و 600 ألف و498 حالة تحتل بها خامس أعلى عدد إصابات في العالم. فيما سجلت وزارة الصحة الفرنسية 26457 إصابة جديدة خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية من يوم الأربعاء بزيادة حادة 11394 عن يوم الثلاثاء، وهذا معدل لم تشهده البلاد منذ يوم 18 نوفمبر.
وقامت فرنسا بتطعيم نحو 140 شخصا حتى الآن وهي تستهدف بالأساس الفئات الأكثر عرضة للخطر في دور المسنين في المرحلة الأولى من حملة التطعيم.
يأتي ذلك في ظل حديث حول إعادة فرض الحجر الصحي الشامل للمرة الثالثة في البلاد منذ بداية الأزمة الصحية مطلع العام الحالي.
فقد حذّر وزير الصحّة الفرنسي أوليفييه فيران من أنّ الحكومة لن تتوانى عن فرض إغلاق عام ثالث على مستوى البلاد إذا استمرّت أعداد الإصابات الجديدة بالفيروس في الارتفاع.
وقال الوزير في مقابلة نشرتها صحيفة "لو جورنال دو ديمونش" الأسبوع الماضي "نحن لا نستبعد أي إجراء قد يكون ضرورياً لحماية السكّان. هذا لا يعني أنّنا اتّخذنا قراراً، لكنّنا نراقب الوضع ساعة بساعة".
أزمة اقتصادية حادة
وأدت تدابير الإغلاق التي اتخذتها السلطات الفرنسية على فترات متقطعة منذ بداية العام إلى تراجع النشاط الاقتصادي.
وتشير توقعات المصرف المركزي الفرنسي إلى انكماش بنسبة 9% هذه السنة وارتفاعه بنسبة 5% في 2021، بينما كان يتوقع قبل ثلاثة أشهر تراجعا في إجمالي الناتج المحلي بنسبة 8.7% خلال السنة الراهنة يليه نمو نسبته 7.4% العام المقبل.
فيما أكدت أرقام نشرها مكتب الإحصاء الوطني “إنسي" بأن نسبة الانكماش الاقتصادي الإجمالي ستبلغ 9 % للعام بأكمله. ولم تشهد فرنسا هذا التراجع القياسي منذ عام 1949 عندما بدأ تسجيل التقديرات الفصلية لإجمالي الناتج الداخلي الخام.
ويعتقد إيريك فالتار، الخبير الاقتصادي، أن الاقتصاد الفرنسي كان يعاني أصلاً من أزمة خانقة تتعلق بسياسات الرئيس ماركون وعلاقته بالنقابات ورؤيته لنظام الدولة الاجتماعية الراعية، لكن العام الحالي يبدو استثنائياً وغير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويقول فالتار في حديث لسكاي نيوز عربية:" توجد قطاعات وازنة في الاقتصاد الفرنسي لم تتأثر كثيراً بالجائحة، وبقية تشتغل بالمردودية نفسها، خاصة القطاع الصناعي، لكن الأزمة تتعلق بالأسواق الخارجية والتوزيع. فيما شهدت قطاعات أخرى وخاصة السياحة والمهن الثقافية، وهي قطاع مهم في فرنسا كارثة اقتصادية غير مسبوقة يمكن ألا تتعافى منها في الأمد القريب، وحتى الأموال التي ضختها الحكومة لمساعدة هذا القطاع لن تكون كافية بسبب الأزمة التي تعيشها الدول التي يأتي منها السياح وحالة اللايقين التي يعيشها العالم عموما بسبب الوباء."
وبحسب تقديرات للحكومة الفرنسية فإن القطاع السياحي والترفيهي قد خسر خلال العام الحالي حوالي 30 مليار يورو. وكان وزير الدولة لشؤون السياحة جان بابتيست ليموين قد قال في مقابلة مع صحيفة "لو جورنال دو ديمانش" في وقت سابق "في الأوقات العادية، تدر السياحة عائدات بقيمة 180 مليار يورو، ستين مليارا منها تأتي من السياحة الدولية. التأثير المباشر لوباء كورونا يبلغ ما لا يقل عن ثلاثين إلى أربعين مليار يورو".
استفاقة ضد الإسلام السياسي
وبموازاة الأزمة الصحية التي ضربت البلاد، عاد الإرهاب في فرنسا إلى الواجهة بعد مقتل أستاذ التاريخ صامويل باتي (47 عاما) على يد لاجئ روسي من أصل شيشاني يبلغ من العمر 18 عاما، في منطقة "كونفلان سانت -أونورين"، في الضاحية الغربية لباريس في 16 أكتوبر. وفي 29 أكتوبر هام مهاجر من أصل تونسي كنيسة في مدينة نيس في هجوم بسكين أوقع 3 قتلى.
وفي أعقاب هذه الهجمات تسارعت خطوات إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نحو مواجهة مفتوحة مع ما يسمى تيار "الإسلام السياسي" داخليا وخارجيا، لا سيما الفرع الفرنسي لتنظيم الإخوان والمنظمات القريبة من تركيا، بعد قرارات بحل "بركة سيتي"، و"التجمع ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا" و"تجمع الشيخ أحمد ياسين" ومنظمة "الذئاب الرمادية " التركية المتطرفة.
ويرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، بجامعة باريس الثامنة، محمد صبري، أن العام 2020 سيكون فاصلاً في تاريخ التعاطي الفرنسي مع الإسلام السياسي حيث شهدنا حملة فرنسية "غير مسبوقة في حدتها أو شموليتها" ضد تيارات التطرف.
وأشار في حديث مع سكاي نيوز عربية إلى أن مصادقة مجلس الوزراء الفرنسي في بداية شهر ديسمبر على قانون "الانعزالية الإسلاموية" سيكون له تأثيراته المستقبلية الجذرية على حضور الجماعات الإسلامية في فرنسا.
ويتابع:" إن هذا القانون غير مسبوق في اجراءاته ولا في كسره للحياد التاريخي للدولة الفرنسية تجاه الشأن الديني منذ إقرار قانون علمانية الدولة في العام 1905، وربما يشكل بداية تجفيف واسع لمنابع الإسلام السياسي المالية والتنظيمية في الداخل الفرنسي".
وبحسب مشروع القانون الجديد، الذي اطلعت "سكاي نيوز عربية" على نسخة منه، فإن فصوله تجرم الكراهية على شبكات التواصل الاجتماعي ومشاركة المعلومات الشخصية للأفراد على شبكة الإنترنت بطريقة تسمح للآخرين الذين يريدون إيذاءهم بتحديد مكانهم. ويلزم مشروع القانون المساجد والجمعيات التي ترعاها بالخضوع لإجراءات جديدة تتعلق بالشفافية المالية لتمويلاتها، حيث سيكون عليها الخضوع للمراقبة الضريبية للتبرعات المالية الأجنبية التي تزيد عن 10 آلاف يورو.
وكذلك يفرض القانون عقوبات يمكن أن تصل للسجن على كل من يرهب أو يهدد المسؤولين الحكوميين لأسباب دينية، أو آيديولوجية خلال أداء وظائفهم. كما يفرض القانون قيودا إضافية على التعليم في المنزل، وعلى المدارس الخاصة غير المتعاقدة مع وزارة التعليم الفرنسية وخاصة المدارس الدينية والتي يمكن أن تصل هذه القيود إلى حد إغلاقها.