"لن ننضم إلى تحالف الشعب الحاكم، حتى لو وضعوا مسدساً في رأسي"، بهذه العبارة القطعية والحاسمة، ردت زعيمة "الحزب الصالح" المعارض، ووزيرة الداخلية التركية السابقة ميرال أكشينار على الدعوات التي وجهت لحزبها القومي اليميني، للانضمام إلى "تحالف الأمة" الحاكم لتركيا، والذي يضم حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، إلى جانب الحركة القومية المتطرفة بزعامة دولت بهجلي.
الدعوة التي كان بهجلي قد وجهها لأكشينار قبل قرابة أسبوعين، أعتبرها المراقبون بمثابة "بالون اختبار" أولي من قِبل أردوغان، لإمكانية خلق تحالف سياسي موسع مع مختلف القوى السياسية القومية اليمينية التركية، لتجاوز أزمته السياسية الخانقة، حيث يشعر بأن تحالفه السياسي الراهن، المتمثل بحزبه والحركة القومية اليمينية، لن يكون كافياً على تأمين أغلبية سياسية مريحة له مستقبلاً، خصوصاً وأن العديد من الاستحقاقات الانتخابية تبدو أقرب من مواعيدها الرسمية، سواء البرلمانية أو الرئاسية.
ويشير الكاتب والمعلق السياسي التركي بكير جوندغموس في صحيفة ميلي غازيت التركية المحافظة إلى أن الزيارة الرمزية التي قامت بها أكشينار إلى جامع آيا صوفيا، التقطها أردوغان وحزبه الحاكم على أنها موافقة مبدئية من قِبلها على عودة التوافق مع التحالف القومي الحاكم.
فأردوغان حسب جوندغموس يسعى لأن يكون الاستقطاب العام في البلاد على أساس إيديولوجي وثقافي، لا سياسي حزبي بحت، لذا فأن زيارة أكشينار اعتبرت موافقة على سياسات الهوية التي يتخذها أردوغان، لجذب القوى القومية المحافظة التي تؤيد أكشينار. لكن الكاتب التركي أضاف بأن ذلك يأتي بنتائج معاكسة، من خلال حزب أكشينار "المعارض" وتحميله كل تبعات أفعال وسياسات حزب أردوغان الحاكم.
حسابات رقمية
التوازنات السياسية الداخلية التركية الراهنة منقسم على استقطابين حادين، داخل البرلمان وخارجه، وكلا الاستقطابان يسيران عكس رغبات وتطلعات أردوغان وحزبه الحاكم، للاستمرار في الحُكم حتى العام 2028، على الأقل.
فتحت قبة البرلمان، المؤلف من 600 مقعد نيابي، ثمة تحالفان سياسيان رئيسيان: الائتلاف الحاكم، المسمى "تحالف الأمة"، يتكون من حزب العدالة والتنمية مع الحركة القومية اليمينية وحزب الوحدة الكُبرى، يضم 341 مقعداً برلمانياً، منها 291 لحزب العدالة والتنمية، أي أقل من الأغلبية النسبية.
ويناظر ذلك "تحالف الشعب"، الذي يضم حزب الشعب الجمهوري، القومي العلماني الأتاتوركي، إلى جانب حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد لحقوق الأكراد، والحزب الصالح، الذي يعتبر حزباً قومياً يميناً.
وهذه الأحزاب الثلاثة المكونة لتحالف المعارضة التركية، تستحوذ على 245 مقعداً برلمانياً. وعلى الرغم من كثرة التناقضات السياسية والإيديولوجية فيما بينها، لكنها مُجمعة على معارضة وأنهاء حُكم أردوغان للبلاد، الذي طال لقرابة عقدين كاملين.
كانت تلك التناقضات الإيديولوجية تُريح أردوغان تقليدياً، لكن التحالف الاستثنائي بين حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي وحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد خلال الانتخابات البلدية الأخيرة، وما تسبب به من هزيمة كبرى لأروغان وحزبه في مختلف المدن الكبرى، زاد من مخاوفه لدرجة كبيرة.
لكن المجريات الداخلية للحياة السياسية التركية خارج البرلمان تؤثر أيضاً على حسابات أردوغان. إذ تأسس خلال الشهور الستة الماضية حزبان سياسيان تركيان جديدان، انبثقا إيديولوجياً وتنظيمياً من رحم حزب العدالة والتنمية، وهو ما يهدد بإمكانية استقطابهما لنسبة معقولة القواعد الاجتماعية والناخبين المؤيدين التقليديين "المضمونين" لحزب العدالة والتنمية، وحتى للكثير من برلماني حزب العدالة والتنمية نفسه.
فحزب الديمقراطية والتقدم الذي أسسه وزير الاقتصاد السابق علي بابا جان، والذي كان يُعتبر رائد المشروع التنموي لحزب العدالة والتنمية في سنوات حُكمه الخمسة الأولى، وحزب المستقبل الذي أسسه رئيس الوزراء السابق والعقل الإيديولوجي لحزب العدالة والتنمية أحمد داوود أوغلو، يشكلان خطراً داهماً على المستقبل السياسي لأردوغان وحزبه، لأن أي تحالف لهذين الحزبين مع قوى المعارضة، سيسحب الأغلبية البرلمانية من يد أردوغان، وهو ما يهدد الأداة التشريعية الأكثر حيوية التي يستخدمها.
ولتفادي ذلك، فإن استراتيجية أردوغان تقوم على خلق منصة واسعة من الأحزاب القومية اليمينة، وأولاً عبر ضم "الحزب الصالح" إلى تحالفه الحاكم. ويسعى أردوغان لذلك، ليس فقط لأن انضمام الحزب الصالح، 37 مقعداً برلمانياً من 600 مقعد، سيوفر له أغلبية مريحة بشكل أوسع داخل البرلمان، بل لأن تلك المنصة اليمنية ستوفر له أداة مناسبة لابتزاز أي تحالف من قوى المعارضة، أو من يتحالف معها من تيارات اليمين القومية، باعتبارها مؤلفة من تنظيمات علمانية ويسارية وقومية كردية، تهدد وحدة وهوية البلاد، وبالتالي جذب وتحصين ناخبيه من الإسلاميين المحافظين واليمينيين القوميين.
يأتي ذلك في وقت أشارت فيه أحدث استطلاعات الرأي، التي نشرها مركز سونار الاختصاصي التركي، والتي أشار فيها إلى حزب العدالة والتنمية سيحصل على نسبة أقل مما حصل عليها في كل الانتخابات السابقة، وأن فارق الأصوات سيذهب لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض.
كذلك فأن تحليل المركز، ذهب للقول بأن حزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد يعاني من مضايقات شديدة، وهو ما سيقلل من نسبه الناخبين لصالحه، لكنه سيدفعه للتحالف مع حزب الشعب الجمهوري الصاعد بأي ثمن، لتجاوز عتبة الـ 10% التي يحددها القانون الانتخابي التركي لدخول الأحزاب للبرلمان.
عوامل مؤثرة
بالرغم من فشل المحاولة الأولية لأردوغان، إلا أن حساباته السياسية تدفعه للاستمرار والتصميم في ذلك المسار، بالذات خلال الشهور القادمة، وذلك بناء على ثلاثة مسارات خارجية، سيستخدمها لصالح تطلعاته الداخلية.
إذ سيزيد من وتيرة مناهضة القوى الكردية، سواء عبر الهجمات العسكرية على مواقع حزب العمال الكردستاني في المنطقة الحدودية بين تركيا أو العراق، أو عبر التصعيد الأمني والقضائي ضد حزب الشعوب الديمقراطية الكردي داخلياً، أو من خلال زيادة التوتر مع المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في سوريا، عبر دعمه للتنظيمات المتطرفة المرتبطة به هناك.
يعتقد أردوغان بأن ذلك التصعيد في وجه الحركة القومية الكردية، بمختلف مستويات وأدوات حِراكها، هي الأداة التقليدية لسحب العصب القومي التركي الداخلي، وأن أعلى مستوى من ذلك سيخلق حالة شبه حربية داخل البلاد، وهو ما سيدفع القوى القومية اليمينية لأن تتمركز حول الحزب الحاكم، مثلما كان يجري تاريخياً.
ويشير الكاتب التركي، رفعت أوزكان، في مقالة مطولة في النسخة التركية من موقع الاندبندنت إلى نهاية دورة الحياة الطبيعية لحزب العدالة والتنمية. فحسب أوزكان، بدأ أردوغان وحزب العدالة والتنمية عام 2002 كحزب ليبرالي محافظ، مستفيد من أخطاء مختلف التيارات السياسية التركية، وبالتالي على استعداد تام للانفتاح على مختلف شرائح المجتمع التركي، وخلق حالة جديدة ضمن الحياة السياسية التركية.
ويضيف أوزكان أن حالة أردوغان تلك انتهت بشكل بطيء بين الأعوام 2011-2015، حينما فضل أردوغان الاستمرار بالسلطة بأي ثمن كان، وعلى حساب خياراته السياسية الأولية، مما دفعه ليتحول إلى حزب وتيار سياسي قومي يميني، وأن يترك مساحة الانفتاح على كافة شرائح المجتمع التركي لصالح حزب الشعب الجمهوري، الذي يظهر مزيداً من الديناميكيات في علاقته مع باقي الأحزاب والتيارات السياسية.
كذلك فإنه سيصعّد من مستوى التوتر في ملف الحقوق الاقتصادية التركية في شرق المتوسط، خصوصاً في وجه التحالف السياسي والاقتصادي اليوناني المصري، الذي يعتبره أردوغان مساً بالمكانة الاستراتيجية التركية في محيطها الإقليمي.
في ذلك المسعى، يستخدم الجهاز الإعلامي والدعائي لحزب العدالة والتنمية أكبر شحنة من الخطاب العاطفي، بالذات ذلك الذي يُعيد لأذهان القواعد الاجتماعية التركية المحافظة ذكريات وخطابات ورموز "حرب الاستقلال" التركية، التي خيضت أساساً في مواجهة اليونان، بين الأعوام 1919-1923، وحيث عليها شُيدت تركيا الحديثة.
فذلك النوع من الخطاب الدعائي، يوحي وكأن تركيا في حرب استقلال أخرى، وبالتالي حتمية وقوف القواعد الاجتماعية التركية، القومية والمحافظة منها بشكل رئيسي، في صف واحد، مؤيد للحزب الحاكم، الذي "يقود حرب الاستقلال" هذه، حسب دعاية حزب العدالة والتنمية.
أخيراً، فإن أردوغان وحزب العدالة والتنمية صار يتوجس من إمكانية خسارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، في مواجهة المرشح الديمقراطي جو بايدن، لأن الأخير، وفي مختلف اطلالته الإعلامية والسياسية، يُعبر عن امتعاضه من سلوكيات وخيارات أردوغان وحزبه الحاكم، بل يعبر صراحة عن مسعاه لتغيير الحُكم في البلاد، عبر دعم قوى المعارضة السياسية. ويستخدم أردوغان هذا الملف باعتباره برهاناً على أنه وحزبه يواجهان حرب خارجية، وأن قوى اليمين القومية يجب أن تتحد معه لمواجهة ذلك.