بين تناقضين يعيش الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فتارة يقدم نفسه أمام العالم الإسلامي أنه وريث للسلاطين العثمانيين، في حين يقدم نفسه أمام الأتراك كأنه حامل لواء الدفاع عن القومية التركية.
هذا التناقض كالحبل الذي يسير عليه أردوغان وكثير من الأتراك ومع التضاد القائم تبدو القضية الكردية كإطار محدد لما تعانيه تركيا من أزمة عميقة للغاية في التعامل مع الأكراد وتطلعهم لإقامة وطنهم على الأراضي، التي يتوزعون فيها.
فتركيا رسخت على مدار عقود طويلة العداء للأكراد عبر سلسلة طويلة من الاتهامات، التي اعتمدت على صنع فجوة بين الأكراد ومحيطهم العربي للحيلولة بينهم وبين طموحهم بإقامة دولتهم القومية.
ورغم التداخل الكردي على جغرافية إيران وسوريا والعراق وتركيا، فإنهم يواجهون تعاملا حادا وقاسيا من قبل الأتراك أكثر من غيرهم من الدول، التي منحتهم بعضا من حقوقهم السياسية كالحكم الذاتي على أجزاء من العراق.
النزاع التركي الكردي
ويتجلى التشدد التركي تجاه القضية الكردية في تصنيف حزب العمال الكردستاني جماعة إرهابية بعد أن تزايدت المطالبات الكردية بمنحهم حقوقهم السياسية ومطالباتهم بإقامة دولة كردية مستقلة أو حكم ذاتي مع الاحتفاظ بكامل هويتهم السياسية.
ومن عام 1974 شكلت الأزمة الكردية واحدة من أكثر أزمات تركيا بعد أن رفض الأتراك منح الأكراد شيء من حقوقهم مما دفع مجموعات كردية للمقاومة المسلحة تحت قيادة عبدالله أوجلان واستمرت الأوضاع المأزومة حتى أعلنت أنقرة عام 1984 حزب العمال الكردستاني كيانا إرهابيا لتطلق تركيا عدة عمليات عسكرية شهدت فيها انتهاكات لسيادة العراق خلال فترة الحصار، التي فرضتها الولايات المتحدة على الجمهورية العراقية بعد عام 1991.
أكراد سوريا .. ضحية أم وسيلة؟
وخلال فترة حكم أردوغان للجمهورية التركية تضاعفت الأزمة الكردية بشكل كبير، ورغم من أن تركيا نجحت في إلقاء القبض على أوجلان عام 1999 وسجنه بتهمة الخيانة العظمى فإن المناوشات ظلت مستمرة بين الطرفين.
ففي عام 2013 أعلن أوجلان وقف إطلاق النار واعتبر الحدث تاريخيا إلا أن تركيا شنت غارات في 2015 على مناطق الأكراد في سوريا ما أسقط الهدنة وفتح الباب لتدخل تركي في الأراضي السورية بزعمها ملاحقة الأكراد.
وكانت العديد من التقارير قد أكدت أن أنقرة غضت نظرها ما بعد اندلاع الأزمة السورية عام 2011 بدخول مئات المتطرفين عبر حدودها إلى الداخل السوري، وفي العام 2014 أعلنت داعش قيام دولتها المزعومة في أجزاء من أراضي العراق وسوريا، مما استدعى قيادة الولايات المتحدة لتحالف دولي لمواجهة الإرهاب.
من جانبه، استغل أردوغان الحرب على الجماعات الإرهابية في سوريا وأطلق عملية عسكرية باسم (درع الفرات) وفرض الجيش التركي سيطرته على كامل المنطقة ورفع فيها العلم التركي وأعلن عن تعيين شخصية تركية لإدارة المنطقة، وكانت السلطات في أنقرة قد قامت خلال عام 2013 من نقل مئات مصانع النسيج في مدينة حلب إلى الداخل التركي مما أفقد مركز الاقتصاد السوري قوته الاقتصادية تماماً.
الأهداف التركية
بعد أن حشدت تركيا قوتها السياسية لإفشال استفتاء انفصال الأكراد عن العراق في 2017 يعتقد كثير من المراقبين أن القيادة التركية تسعى لإنشاء واقع محتل ففي شمال سوريا بهدف التغيير الديمغرافي من جهة، ولبسط مزيد من التوسع التركي في سوريا وهو ما تريده حاليا من خلال تهديدها بالقيام بعملية عسكرية شرقي الفرات ومطالبتها الولايات المتحدة بفرض منطقة آمنة شمالي سوريا بعرض 30 كلم في العمق السوري.
يحاول أردوغان ابتزاز المجتمع الدولي عبر سياسة فرض الأمر الواقع في الشمال السوري، وهو ما دعا الأكراد لتوجيه نداء بعدم التخلي عنهم وتركهم لمواجهة مصيرهم في حال تقدمت القوات التركية لتنفيذ عملية عسكرية في شرق الفرات مما سيضع قوات سورية الديمقراطية في مواجهة غير متوازنة يريدها أردوغان بإنهاء كل الوجود العسكري الكردي، وبذلك يضمن إخماد المطالب الكردية في جنوب تركيا لسنوات قادمة.
الفوبيا الكردية .. متى تنتهي؟
يمتلك الأكراد هوية وثقافة ستظل تعزز من وجودهم ومن خلالها سيستعيد الأكراد دائما مطالبهم لتحقيق نزعاتهم بوجودهم السياسي، فحتى وإن استطاع أردوغان إضعافهم سياسيا في العراق، وضربهم عسكريا في سوريا، والتحالف مع إيران ضدهم، ستظل الدوافع الكردية حاضرة وقادرة على استعادة حضورها متى ما توافرت الظروف لبعثها مرة أخرى.
فحكم أردوغان كرس لسنوات خطاب الكراهية تجاه الأكراد، الذين لعبوا دورا حاسما في انتخابات بلدية إسطنبول وأسهموا بإسقاط ممثل حزب العدالة والتنمية في سياق تصاعد الاحتقان بين أردوغان وجزء من تركيبة تركيا السكانية، ولعلها رسالة تحمل مضمون أن الصراع سيبقى وأن ما دون الرماد سيظل جمرة مشتعلة لن تنطفئ.