بعد الهزيمة التي تعرض لها رجب طيب أردوغان وحزبه في الانتخابات البلدية إثر خسارة مرشحي العدالة والتنمية في مدن تركية رئيسية، يبدو أن قبضة الرئيس التركي آخذة التراخي وربما الارتداد عليه.
ولا شك أن من أسباب الهزيمة التي تعرض لها أردوغان قمع الحريات والاعتقالات، والأهم من ذلك بدء دخول الاقتصاد التركي مرحلة الكساد مع تشهده الليرة التركية من تراجع كبير.
وكان الناس ربطوا بين نجاح أردوغان في الوصول إلى ما وصل إليه هو وحزب العدالة والتنمية، الذي يتزعمه، والانتعاش الاقتصادي الكبير الذي تمتعت به تركيا خلال العقدين الماضيين.
ومن أبرز هذه العوامل، أن الاقتصاد التركي خلال فترة الكساد التي شهدها العالم عام 2008 و2009، كان قويا جدا ونجح في اجتياز الأزمة العالمية بامتياز.
ويميل كثير من الناس في تركيا وخارجها إلى التهويل من دور أردوغان وحزبه في الازدهار الاقتصادي التركي، بل إنهم يميلون إلى "أسطرة" الدور الأردوغاني ومنحه شرف إنقاذ اقتصاد البلاد من الانهيار.
غير أن كثيرين يجهلون من يقف وراء هذا الازدهار الاقتصادي لتركيا في تلك الفترة، ويميلون إلى القول إلى الرجل الحقيقي وراء ذلك هو أردوغان نفسه، دون أن يبذلوا جهدا في البحث، أو أنهم باختصار يميلون إلى تجاهل الحقيقة، وينسبون الازدهار إلى الرجل الذي "دمر" الليرة التركية لاحقا بتدخله في سياسة البنك المركزي التركي وسعر الفائدة وما إلى ذلك.
أبو الازدهار الاقتصادي
قبل مارس 2001، وتحديدا منذ فترة تحرير الاقتصاد التركي عام 1981، شهد الاقتصاد التركي أزمات متتالية وطاحنة ومر بفترات ركود حادة، بلغت ذروتها مع الأزمة المالية والاقتصادية الكبرى في العام 2001، وهي للمناسبة مماثلة لما تشهده تركيا حاليا.
فقبل 18 تقريبا، وتحديدا في 21 فبراير 2001، أصبح ذلك اليوم يعرف باسم "الأربعاء الأسود"؛ حيث شهدت تركيا الأزمة المالية والاقتصادية الأسوأ والأخطر في تاريخها المعاصر، حيث انهارت الليرة التركية وانخفضت سوق الأسهم في اسطنبول بصورة حادة، وانكمش الاقتصاد التركي، الأمر الذي تطلب تدخل البنك المركزي، لكن باءت محاولاته كله بالفشل كما فشلت جهود صندوق النقد الدولي لدعمه.
بعد الأزمة الاقتصادي الطاحنة، التي شهدتها تركيا في ذلك العام، اضطرت أنقرة إلى وضع برنامج للتجديد الاقتصادي، أعده خبير اقتصادي تركي عمل طويلا في البنك الدولي وهو كمال درويش.
وكان رئيس الوزراء التركي في تلك الفترة، أي مارس 2001، بولنت أجاويد قد عين درويش وزيرا للشؤون الاقتصادية والمالية، حيث أصبح مسؤولا عن برنامج الإنعاش في بلاده، ومنح صلاحيات واسعة تستهدف "إنقاذ الاقتصاد وإعداد خطة اقتصادية جديدة بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي".
وعند تعيينه وزيرا للاقتصاد والمال، تضاربت ردود الفعل تجاه درويش، إذ فيما استقبلته الأوساط الاقتصادية التركية الموالية لحكومة أجاويد تعيينه بموجة أشاعت جوا من الارتياح في أسواق المال، وأطلقت عليه لقب "منقذ تركيا الجديد"، استنكرت أحزاب المعارضة "تعيين خبير مستورد من أميركا"، بل ذهبت إلى اعتبار تعيينه "إهانة للكوادر التركية".
يشار إلى أن درويش عمل نحو عقدين في البنك الدولي، وشغل منصب نائب رئيس البنك الدولي قبل أن يتم تعيينه وزيرا للاقتصاد والمال في تركيا، وهو مولود لأب تركي وأم ألمانية، ويجيد إلى جانب اللغة التركية اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
ومنذ توليه منصبه، عمل درويش على قيادة الاقتصاد التركي المأزوم، وشرع في برنامج إصلاح اقتصادي طموح متسق مع توجيهات صندوق النقد الدولي، لإخراج تركيا من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وقام بخفض أسعار الفائدة والتضخم، وعمل على إعادة الاستقرار إلى الليرة التركية، كما ساعد في تقديم إصلاحات للقضاء على الفساد.
وأتت الإصلاحات التي بدأ بتنفيذها ثمارها، فارتفع إجمالي الناتج المحلي في أقل من عام تقريبا إلى 5.7 في المئة، وانخفض معدل التضخم كثيرا وتراجعت معدلات البطالة، فيما ارتفعت ثقة المستثمرين وفتحت تركيا أسواقها بشكل متدرج عبر اتخاذ سلسلة تدابير، مثل الحد من القيود الحكومية على التجارة الخارجية والاستثمار، وخصخصة الصناعات المملوكة للقطاع العام، وغيرها.
وبذلك، يكون كمال درويش هو من وضع أسس الاقتصاد التركي الذي أدى إلى قفزة كبيرة بحيث أن تركيا أصبحت الدولة الوحيدة ربما في أوروبا كلها، التي لم تتعرض لأزمة اقتصادية رغم الكساد الاقتصادي، الذي ضرب كثيرا من دول العالم واقتراب دول حتى من الإفلاس، مثلما حدث في أيرلندا وأيسلندا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال.
الحقبة الأردوغانية
بعد النجاحات الاقتصادية التي حققها درويش في تركيا، بدأت ميوله السياسية تتضح أكثر، وحاول توحيد أحزاب المعارضة اليسارية أو أحزاب يسار الوسط، الأمر الذي أدى إلى خلاف بينه وبين رئيس الوزراء أجاويد الذي خيره بين منصبه وبين أنشطته السياسية.
وفي 10 أغسطس 2002 استقال درويش من منصبه الوزاري لخوض الانتخابات التشريعية المبكرة المقررة يوم 3 نوفمبر، وانتخب نائبا في البرلمان كعضو في حزب الشعب الجمهوري، الذي كان الحزب المعارض الرئيسي في ذلك العام.
وفي تلك الفترة، كانت استطلاعات الرأي تشير إلى أن حزب العدالة والتنمية سيتصدر الانتخابات بحوالي 20 في المئة من الأصوات بسبب تشرذم أحزاب اليمين واليسار.
وبالفعل تمكن حزب أردوغان من الفوز في الانتخابات، وترأس أردوغان الحكومة التي تشكلت في 2003، فبدأت الحقبة الأردوغانية.
وفي حكومة أردوغان، تم تعيين علي باباجان، وزيرا للاقتصاد، فاستمر في تنفيذ البرنامج الذي وضعه كمال درويش بحذافيره حتى خروجه من الوزارة في أغسطس 2007، حيث تم تعيينه في منصب كبير المفاوضين في محادثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وخلفه محمد شيمشك وزيرا للاقتصاد.
ومع بدء حقبة أردوغان، كشفت الحكومة الجديدة عن مؤشرات مطمئنة، والتزمت بوعودها الانتخابية "المكلفة"، مثل الحد الأدنى للأجور وزيادة الرواتب والإنفاق الاجتماعي وزيادة الاستثمار في البنية التحتية لتعزيز النمو وتوفير فرص عمل إضافية وزيادة القدرة التنافسية.
ونتيجة لتمسك باباجان ببرنامج كمال درويش الاقتصادي، بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا ذروته عام 2007، ووصل إلى حوالي 22 مليار دولار.
غير أنه منذ ذلك الحين، بدأ الاستثمار الأجنبي المباشر يتخذ مسارا تنازليا، فبلغ في العام 2014 حوالي 12.5 مليار دولار، ولم تقم الشركات الأجنبية بأي عمليات استحواذ كبيرة في تركيا كما لم تطلق أي مشروعات جديدة كبيرة وذلك نتيجة العديد من العوامل الناجمة، من بينها القلق العام من الأسواق الناشئة والتقلبات السياسية في تركيا، إضافة إلى ضعف العملة وارتفاع معدل التضخم نسبيا.
وظل الاقتصاد التركي ينمو ويزدهر إلى أن وصل المركز 17 عالميا، وحقق نموا سنويا بنسبة 6.8 في المئة.
عودة إلى الهبوط والانحدار
لكنه أخذ في السنوات الأربع أو الخمس الماضية يتباطأ ويتراجع ويتقلب، فتراجع معدل النمو إلى 3.5 في المئة، ولم يرتفع معدل دخل الفرد إلى بصورة طفيفة، بعد قفزات كبيرة في العقد السابق (2002 2012).
ثم سادت مرحلة "عدم يقين" بالاقتصاد التركي، بلغت ذروتها مع "المحاولة الانقلابية"، ثم تدهورت قيمة الليرة التركية، بينما ارتفع معدل التضخم، حتى وصل إلى 9.6 في المئة عام 2016، بالإضافة إلى ارتفاع الدين الخارجي التركي وخدمة الدين.
وساهمت سياسة أردوغان وحزبه السياسية والاقتصادية، وتدخله في شؤون البنك المركزي التركي، في انتشار الفساد والتعسف وتدهور قيمة الليرة التركية، مثل إلحاح الرئيس التركي علانية على البنك المركزي بتخفيض أسعار الفائدة، وذهب إلى وصف سعر الفائدة المرتفع بأنه "أم الخطايا"، فيما اتهم في إحدى المرات محافظ البنك المركزي بأنه "خائن للأمة" لدفاعه عن معدلات الفائدة المرتفعة.