اعتاد النظام الإيراني على الاحتجاجات، فقد شهد أخطر وأكبر مظاهرات معارضة في عام 2009 احتجاجا على تزوير الانتخابات لصالح الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد.

لكن مظاهرات 2009 لم تقترب من علي خامنئي باعتباره الزعيم الديني الأعلى للبلاد، إلا أن صورة المرشد التي طالما رفعت بتبجيل انقلبت وأحرقت فيها النيران في عام 2018، وهو العام الذي استبدل فيه الإيرانيون الهتاف من "الموت لأميركا" إلى "الموت لخامنئي".

فمنذ ديسمبر عام 2017، وصلت درجة حرارة الشارع الإيراني إلى الغليان نتيجة تراكم سياسات اقتصادية وخارجية زحفت بتأثيراتها على جيوب الإيرانيين، وأطاحت الطبقة المتوسطة حتى زاحمت الملايين القابعين تحت خط الفقر، وهي فئة تمثل 40 بالمئة من تعداد السكان البالغ 81 مليون نسمة.

ومن مدينة مشهد انطلقت أولى المظاهرات التي شارك فيها المتضررون من المؤسسات المالية، احتجاجا على البطالة والفقر وارتفاع الأسعار، واستمرت المظاهرات منذ ذلك الحين ككرة ثلج متدحرجة لتمتد إلى باقي المدن الإيرانية وتصل إلى العاصمة طهران.

وبينما بدأت الاحتجاجات بانتقاد سياسة الرئيس حسن روحاني الاقتصادية بشعارات "نريد المحاسبة يا روحاني"، و"الأثرياء المترفين عار علينا"، انتهت الهتافات إلى "الموت لخامنئي"، أما المكان هذه المرة فكان أمام مقر إقامته في قلب العاصمة.

وأصبح المرشد الذي تجاوز عمره 79 عاما قبلة المحتجين الذين أدركوا أن النظام السياسي للبلاد من القمة حتى القاع، هو السبب الرئيسي في المعاناة التي يعيشونها.

فقد دهست العقوبات الأميركية خطابات خامنئي المتحدية لواشنطن، بعد انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي في مايو 2018.

انهيار الدعاية

ولم تلق لعبة إلقاء اللوم على الأعداء أي شعبية في الشارع الذي شاهد ماذا فعل المرشد وأعوانه خلال فترة تعليق العقوبات، عندما أنفق مليارات الدولارات من عوائد النفط والأموال التي رفع عنها التجميد، في تسليح ميليشيات طائفية في عدد من البلدان العربية في إطار حروب لا ناقة للشعب فيها ولا جمل.

وانهارت العملة المحلية أمام الدولار الأميركي لتخسر أكثر من 80 في المئة من قيمتها حتى قبل انسحاب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي، لتثبت أن سوء الإدارة هي السبب الرئيسي فيما يواجهه الشعب من معاناة.

وذكر الرئيس الأميركي أن الأزمة الاقتصادية في طهران هي نتيجة "الديكتاتورية الفاسدة" التي سرقت ملايين الدولارات من الخزانة العامة، لإنفاقها على وكلائها في منطقة الشرق الأوسط.

أما خامنئي الذي بات حاضرا في كل حي وزقاق بإيران عبر صوره المنكسة والمحترقة والهتافات المعادية له، فلم يجد سوى القمع الأمني الذي نجح عام 2009 في إنهاء احتجاجات الثورة الخضراء التي كادت أن تجهز على النظام.

لكن ثمة متغيرا في احتجاجات عام 2018، فالشباب الذين خرجوا قبل 10 سنوات إلى الشارع كانوا ضمن الطبقة المتوسطة المتطلعة لحياة أقل تشددا ولديهم انتماء سياسي يميل إلى ساسة خاطروا بإعلان أفكارهم القريبة من الحداثة.

أما الآن، فإن الغاضبين من فئات أكبر وأقوى، فهم هؤلاء الذين طالما هتفوا للنظام الديني وأشغلهم الفقر والعمل الشاق عن المطالبة بأمور تعد بالنسبة إليهم رفاهية كتغيير شكل النظام السياسي.

البازار الكبير "يتوحش"

واشتعلت الاحتجاجات في أوساط عمال المصانع من الصلب إلى السكر والأغذية والسيارات، بسبب تأخر الرواتب وغلاء الأسعار، ووصلت إلى "بازار طهران الكبير"، بعدما تضرر التجار من الغلاء وانهيار الريال.

ولطالما كان البازار المترامي الأطراف في طهران مركزا للمحافظين في السياسة الإيرانية، وقد كان من أول الداعمين لنظام الملالي بعد ثورة عام 1979، لكن خامنئي خسر البازار كما خسر العمال وقبلهم الطبقة المتوسطة.

وبينما تعول الولايات المتحدة على العقوبات التي طالت قطاعات النفط والمصارف والصناعات التعدينية، في خلخلة الكرسي من تحت خامنئي، فإن الرجل الذي يحكم البلاد منذ 29 عاما لم ينتظر العقوبات، فقد ضربت المغامرات العسكرية في اليمن وسوريا والعراق ميزانيته وكشفت النعوش العائدة إلى طهران من مناطق القتال عن مشكلات عسكرية.

وأصيبت الدعاية الحكومية في مقتل، فلم يستطع الحرس الثوري إغلاق مضيق هرمز رغم التهديد مرارا بذلك، في رده على العقوبات النفطية، واكتشف الإيرانيون أن المقاتلة الإيرانية "كوثر" ما هي إلا نموذج مقلد للمقاتلة الأميركية "أف 5" التي تعود إلى السبعينيات، أما الصواريخ المطلية باللون الفضي، فلا يعرف أحد إلى الآن ماذا ستفعل إذا جرى تجربتها ميدانيا.

لكن ما يعرفه الإيرنيون بالتأكيد هو السقوط الصاروخي للريال والعزلة الاقتصادية لبلادهم، والرواتب التي أصبحت في علم الغيب، وكيفية الاحتجاج دون خوف من القمع الأمني في شارع باستور الذي يعيش فيه خامنئي.