خطف واختفاء وتعذيب.. جميعها جرائم يعاقب عليها القانون في دول العالم، ولكن في تركيا انقلبت الآية لتصبح الحكومة هي من تقف وراء مثل هذه العمليات، في محاولة منها للقضاء على جميع من تشتبه بارتباطهم بجماعة فتح الله غولن، وفق ما كشف تحقيق صحفي دولي جديد.
وقد أجرت 9 وسائل إعلام دولية، تحقيقا صحفيا مشتركا، بتنظيم من "CORRECTIV"، وهي مؤسسة ألمانية غير ربحية معنية التحقيقات الصحفية.
وتناول التحقيق عمليات الخطف والاختفاء القسري، الذي تمارسه الحكومة التركية بحق مدنيين، وقام بتوثيق تلك العمليات بشهادات ومقاطع فيديو.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قد شن حملة اعتقالات وحشية بعد الانقلاب الفاشل الذي شهدته البلاد عام 2016، أسفرت عن اعتقال 160 ألف شخص، منهم مدرسين وقضاة وصحفيين وجال شرطة، بالإضافة إلى طرد 150 ألف شخص من مناصبهم، حسب ما ذكرت الأمم المتحدة.
وفي التحقيق، كشف "تولغا" (الذي وافق على الحديث دون الكشف عن اسمه الحقيقي)، قصة خطفه في وضح النهار من قبل مجهولين، في عام 2017.
وقد وثق مقطع فيديو لكاميرا مراقبة عملية الخطف هذه، حيث توقفت سيارة سوداء اللون بالقرب منه، ثم خرج منها رجلان يرتديان ملابس مدنية، وأمسكا به واقتاداه إلى داخل السيارة التي انطلقت مسرعة.
وأوضح تولغا أنه حاول المقاومة، لكنع تعرض للضرب، وتمت تغطية رأسه وتكبيل قدميه، وأضاف: "استوعبت بسرعة أنه لا فائدة من محاولة الدفاع عن نفسي. كان يتوجب علي أن أبقى هادئا وأن أتصرف بطريقة محسوبة"، حسب ما ذكر موقع صحيفة "هآرتس"، التي شاركت في التحقيق.
وأشار تولغا إلى أنه تم اقتياده إلى منشأة غير معروفة، استُخدمت كسجن، وقال: "كانت مساحة الزنزانة لا تتعدى مترين x متر ونصف، وكانت هناك قطع ملابس تغطي الأرض والجدران، لتمنع المعتقلين من محاولة الانتحار بضرب رؤوسهم بالجدران أو الأرضية".
في البداية، تعرض تولغا لتحقيقات مكثفة تخللتها عمليات تعذيب، حيث تم ضربه وصعقه كهربائيا، وتهديده بالاغتصاب، وبالقيام بالمثل لعائلته. كما كانت غرف التحقيقات مجهزة بوسائل وأجهزة للتعذيب، مثل وجود حلقات معدنية على الأرض والسقف، لتثبيت اليدين والقدمين فيها.
وكانت كل عمليات التحقيق تتعلق بانضمام تولغا لجماعة رجل الدين فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة، والذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة. وقد كان تولغا يعمل في مؤسسة تابعة لجماعة غولن.
وحاول "المحققون" دفع تولغا للوشاية بزملائه وأصدقائه، إذ أروه صورا لهم وطالبوه بتقديم معلومات عنهم، وتقديم شهادة في المحكمة دون الكشف عن هويته.
وأكد تولغا أن مختطفيه عرضوا عليه فرصة تقديم شهادة في المحكمة من وراء ستار للحفاظ على سرية هويته، ومنحه هوية جديدة ونقودا، وتوجيه أمر للمحكمة بإسقاط عن كل التهم الموجهة.
ومع اقتراب نهاية احتجازه، ادعى تولغا أنه سيتعاون مع مختطفيه وسيقدم المعلومات اللازمة، مما أدى إلى تخفيف عمليات التعذيب. وفي يوم ما وبشكل مفاجئ، بعد أشهر من احتجازه ومنعه من التواصل مع أسرته أو أي شخص، تم أخذه بسيارة إلى وسط العاصمة أنقرة وإطلاق سراحه.
وبعدها، نجح تولغا في الهرب إلى دولة في غرب أوروبا، وحصل على صفة لاجئ للحفاظ على حياته.
يذكر أنه طوال فترة احتجازه، حاولت عائلة تولغا الوصول إلى مكانه، وقد أطلقت العديد من النداءات عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، إلا أن الحكومة التركية لم تقدم أية إجابات.
وسبق لمسؤولين أتراك، بينهم أردوغان، أن أكدوا أن تركيا "لا تمارس أي عمليات تعذيب بحق السجناء"، فيما نددت مؤسسات دولية معنية بحقوق الإنسان بهذه العمليات مؤكدة وجودها بالفعل داخل السجون التركية، بالإضافة إلى عمليات الاختفاء القسري التي يتعرض لها المدنيون.
وليس تولغا هو الوحيد الذي كشف عن مأساته في هذا التحقيق الصحفي، إذ قال علي (وهو أيضا اسم مستعار)، إنه تعرض للخطف في وضح النهار في مدينة غربي تركيا، وتم اقتياده إلى منشأة غير معروفة حيث تعرض للتحقيق والتعذيب.
وقال: "خلال التحقيقات فوجئت بأنهم يتهمونني بالإرهاب، ويعلمون معلومات مفصلة عن أسرتي وأطفالي، كما أنهم عرضوني لعمليات تعذيب، إذ أُرغموني على الوقوف لساعات، وهناك غطاء على رأسي، وعندما كنت أنهار كانوا يرغمونني على الوقوف مجددا".
يشار إلى أن علي تمكن أيضا من الهرب إلى دولة في غرب أوروبا والحصول على صفة لاجئ.
أما المدعو أوندير أسان، الذي عمل كمدرس، فقد تم اختطافه في أبريل عام 2017، وأمضى 42 يوما في مكان غير معلوم، قبل أن يتم إطلاق سراحه وأمره بتسليم نفسه إلى مركز للشرطة، حسب ما ذكر موقع "مركز ستوكهولم للحريات".
عمليات خطف دولية
لم تكتف الحكومة التركية، "باقتناص" معارضيها وكل من "تشك بولائه" داخل البلاد، إذ نفذت عمليات خطف في 18 دولة، منها كوسوفو، ومولدوفا، وأذربيجان، وباكستان، وغابون، وأوكرانيا.
وقد اعترف الرئيس التركي بتنفيذ عمليات الخطف هذه، على عكس عمليات الخطف التي تحدث داخل البلاد وتنكرها الحكومة التركية.
وقال أردوغان في خطاب في يوليو الماضي: "سنعيد رجال غولن الذين هربوا ويعتقدون بأنهم في أمان، واحدا تلو الآخر".
وبالرغم من أن أنقرة تعترف بتنفيذ تلك العمليات، فإن آلية تنفيذها تبقى غير واضحة، إلا أن العملية التي نفذتها في كوسوفو في مارس الماضي كشفت بعض التفاصيل.
وكانت طائرة تحمل علامة "TC-KLE" قد هبطت في مطار العاصمة بريشتينا، ثم غادرت في وقت لاحق وهي تحمل 6 أتراك، 5 منهم معلمين، وعادت بهم إلى العاصمة التركية أنقرة.
وقد أوضحت زوجة أحد الرجال المختطفين، أن رجالا أوقفوه خلال قيادته على الطريق السريع في قرية قرب بريشتينا، وادعوا أنهم من الشرطة، ثم اختطفوه واقتادوه إلى المطار.
واتضح لاحقا أن الطائرة التي أقلت الرجال، تابعة إلى شركة تركية مختصة بالسياحة والبناء، تدعى "Birlesik insaat Turizm Ticaret ve Sanayi"، ويقع مكتبها في مبنى تملكه المخابرات التركية.
كما نجحت السلطات التركية في خطف 7 رجال في سبتمبر الماضي يعملون في مدرسة تابعة لغولن، وإعادتهم من مولدوفا إلى تركيا.
وقالت وسائل إعلام في مولدوفا، إن عناصر من الشرطة المحلية ألقوا القبض على الرجال في المدرسة، أو خلال ذهابهم إليها، ونُقلوا جوا إلى مطار بالقرب من إسطنبول.
أما في حادثة أخرى، فقد فشلت الحكومة التركية في تنفيذ عملية خطف بحق رجل كان يعمل مديرا لمدرسة تابعة لغولن، في عاصمة منغوليا أولان باتور.
وبعد أن قامت أسرة الرجل بالتحدث إلى وسائل الإعلام، منعت الحكومة المنغولية الطائرة التركية من الإقلاع، وأعادت الرجل. يذكر أن الطائرة كانت مسجلة أيضا باسم شركة السياحة نفسها.
ووفقا لمسؤولين أتراك، فإن السلطات التركية خطفت 100 رجل وأعادتهم إلى تركيا، من 18 دولة. وقد قدمت مؤسسة العفو الدولية شكاوى بشأن عمليات الخطف هذه، التي تعتبر مخالفة للقانون الدولي.
ووفقا لعائلات المختطفين، فإن معظمهم يتلقون اتهامات متعلقة بالإرهاب لدى عودتهم إلى تركيا، ويتم وضعهم في سجون "عادية"، وليست كتلك المنشآت السرية التي يوضع فيها المختطفون داخل البلاد.