ممسكا بدفتر صغير وموزعا ابتسامات شاحبة، يستقل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني المدرج على لوائح الإرهاب قاسم سليماني طائرته في مهمات مكوكية، تشمل بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، والهدف تنسيق ترتيبات "سياسية" كان الأولى أن تكون من اختصاص الدبلوماسيين.

لكن مع تورط النظام الإيراني في حمامات الدم بالمنطقة، أصبح سليماني هو "الوجه الدبلوماسي الجديد" لطهران عوضا عن وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذي أصبح دوره مثار تساؤل، بحسب مراقبين.

فبينما كانت الخلافات على أوجها بين الكتل السياسية في البرلمان العراقي بشأن المناصب الحكومية الشاغرة وعلى رأسها حقيبة الداخلية، كان سليماني يحتسي الشاي في منزل مفتي العراق ببغداد، حيث بحث معه كيفية دعم فالح الفياض القائد السابق للحشد الشعبي لتولي المنصب.

وأصبح الفياض الموالي لإيران عنوان أزمة كبيرة في بغداد، مع إصرار الكتل السياسية المنضوية تحت لواء طهران على الدفع به على أجندة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، بينما يقف تحالف "سائرون" بزعامة مقتدى الصدر وائتلاف النصر بزعامة حيدر العبادي ضد تمرير "التعيين الإيراني".

والخميس، ذهب سليماني إلى أربيل لإقناع الحزب الديمقراطي الكردستاني بالتنازل عن وزارة العدل لمرشح عن حزب الاتحاد الكردستاني، وذلك من أجل قبول حزب الاتحاد فيما بعد حضور جلسة البرلمان المقبلة والتصويت لتمرير الفياض لتولي وزارة الداخلية.

البحث عن ظريف

وأثار وجود القائد العسكري بالحرس الثوري في بغداد ثم أربيل من أجل قضية سياسية، الجدل بشأن طبيعة الدور الذي يلعبه الرجل وطبيعة الأحزاب العراقية التي تتعامل معه، كون الائتلافات السياسية الجديدة خرجت من رحم الحشد الشعبي الذي أسسه سليماني بنفسه.

والعراق ليس استثناء في زيارات سليماني، فقد استقبله المتمردون الحوثيون في صنعاء، والحكومة السورية في دمشق، وميليشيا حزب الله التي تهيمن على القرار في بيروت، حتى إن وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني لم يتعامل مع نظيره الإيراني في صفقة تحرير الرهائن القطريين، بل مع سليماني الذي تسلم من القطريين ما يقرب من مليار دولار ووزعها على ميليشياته في العراق ولبنان وسوريا.

وعندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قرار الانسحاب من الاتفاق النووي، لم يأت الرد من الرئيس الإيراني حسن روحاني على الفور، أو من خلال وزير الخارجية، بل انطلق سليماني بتصريحات نارية قال فيها: "حسابكم مع فيلق القدس، ونحن أقرب إليكم مما تتصورون"، حسبما ذكرت وكالة أنباء فارس الإيرانية.

ويتجاوز لسان سليماني وتحركاته النطاق العسكري إلى المعترك الدبلوماسي، ليسحب بذلك أهم ملفات إيران الخارجية من أدراج مكتب ظريف.

وأدى تغول الحرس الثوري على الجهاز الدبلوماسي في إيران إلى درجة دفعت ظريف إلى تقديم استقالته إلى روحاني في أواخر أكتوبر الماضي، لكنها رفضت نظرا للظروف الدقيقة التي يعيشها النظام جراء العقوبات الأميركية، بحسب عدد من المصادر المطلعة.

ونقلت وسائل إعلام عن تلك المصادر قولها إن ظريف عبر عن استيائه بوجود "وزراء خارجية موازين داخل إيران"، مشيرا إلى سليماني على وجه الخصوص.

وينبع الدور الجديد لسليماني من حقيقة أن الحرس الثوري أصبح أقوى من أي جهاز حكومي، بميزانية تزيد عن 7 مليارات دولار مخصصه له وحده، بينما لا يحصل الجيش النظامي سوى على 4 مليارات دولار.

وبالإضافة إلى ذلك، يستحوذ الحرس الثوري على ما يزيد عن 50 بالمئة من النشاط الاقتصادي الإيراني، عبر 200 شركة تعمل في جميع المجالات.

دولة ميليشياوية

ويرى المدير التنفيذي للمركز العربي للبحوث والدراسات هاني سليمان أن تصدر سليماني للمشهد الدبلوماسي، يؤكد على أن إيران أصبحت دولة "ميليشياوية عسكرية"، ليعكس بدوره مدى التعقيد الذي وصل إليه الوضع في بنية النظام والتداخل الشديد بين المؤسسات بدلا من التوازن المتعارف عليه في الأنظمة السياسية.

وقال سليمان لـ"سكاي نيوز عربية": "قائد فيلق القدس أصبح يقوم بأدوار موازية للدولة ومؤسساتها، مما يعبر عن تغول التيار المتشدد ويخدم مصالح الحرس الثوري المتحكم في الأوضاع داخل إيران".

وتوقع أن تزيد هذه الحالة من الاضطرابات داخل إيران، بالقول:" سيزيد تعقيد الأزمة الإيرانية لأنه يرى الأمور بعين عسكرية، وهذا يوقع طهران في العديد من المشاكل الخارجية والداخلية".

ورغم أن الزحف العسكري على الحكومة الإيرانية ظهر جليا في عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، الذي استعان بجنرالات بالحرس الثوري لشغل ما يصل إلى 60 بالمئة من حقائب الحكومة، فإن اختطاف الملفات الدبلوماسية من الخارجية يعبر عن امتداد أزمة الثقة إلى المؤسسة السيادية المنوط بها تحسين صورة النظام الإيراني أمام العالم.

وأضحت إيران على طريق العسكرة الميليشياوية للنظام السياسي، وهو ما يشير إلى تغير أساسي في مهمة الحرس الثوري، "فالميليشيا التي أسست لحماية النظام والمرشد الأعلى، أصبحت تزاحمه في النفوذ"، بحسب سليمان.

وأشار المحلل السياسي إلى "أزمة ثقة" تعتري النظام الإيراني وحالة من الصراع على النفوذ، مع الوضع في الاعتبار الحالة الصحية للمرشد علي خامنئي، والتقارير التي تحدثت عن دخول الحرس الثوري بقوة في عملية اختيار المرشد المقبل.

وقال سليمان: "الكلمة الأخيرة في إيران أصبحت لمن يقودها فعليا، وهو الحرس الثوري".