لطالما سوّق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، نفسه على أنه منقذ اقتصاد تركيا من الأزمات الاقتصادية، وهو ما نجح فيه مع حزبه العدالة والتنمية، لكن عبر الترويج لـ"فقاعة اقتصادية" لم تستمر طويلا، وباتت على وشك الانفجار أخيرا مع انهيار الليرة.
بعد وصوله إلى السلطة عام 2002، بدأ حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان، في وضع استراتيجية جديدة للاقتصاد التركي، واستطاع تحقيق أرقام إيجابية مثل تحسين دخل الأتراك وخفض التضخم كما سددت تركيا كل ديونها لصندوق النقد الدولي عام 2013.
لكن خبراء توقعوا أن هذا الأمر لن يدوم ، مشيرين إلى احتمال وقوع هزة عنيفة شبيهة بتلك التي أطاحت النمور الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي.
ويرد الخبراء سبب الفقاعة التركية إلى قفزات في القطاعين الاستهلاكي والعقاري، حيث انتشر بناء مراكز التسوق وناطحات السحاب، ناهيك عن مشروعات البنى التحتية الطموحة وجلب الاستثمارات، عوضا عن التركيز على أسس صلبة وبعيدة المدى.
أرقام في الحضيض
وبالفعل بدأت علامات الانحدار في الاقتصاد التركي، وصولا إلى أغسطس 2018، عندما سجلت الليرة التركية انهيارا تاريخيا، إذ بلغ الدولار 7.24 ليرة تركية ليل الأحد.
وبلغ التضخم في تركيا في يوليو الماضي 16 بالمئة، وهو أعلى مستوى منذ 14 عاما.
وتظل نسبة البطالة أيضا فوق 10 في المئة، مما يعني عدم قدرة الحكومة على زيادة عائدات الضرائب لتغطية العجز في الميزانية، البالغ 50 مليار دولار.
عناد المنطق
وكان واضحا أن سياسات أردوغان لعبت دورا كبيرا في تداعي "المعجزة" الاقتصادية في بلاده، فبدا أن أردوغان لا يفهم قواعد الاقتصاد الأساسية، فرفض الاستماع لنصائح البنك المركزي لرفع الفائدة لإنقاذ الليرة، معتبرا أن الأمر "أم الشرور".
ويقول الرئيس التركي إن أسعار الفائدة المنخفضة تؤدي إلى انخفاض معدلات التضخم، والعكس هو الصحيح تماما، لذلك تلجأ البنوك المركزية للحد من ارتفاع نسبة التضخم برفع أسعار الفائدة.
وعبّرت مؤسسات التصنيف الائتماني الرئيسية في 2018 في تقاريرها الأخيرة عن مخاوفها من مستقبل الوضع الاقتصادي لتركيا، وبالتالي خفضت تصنيفها لديون البلد، واعتبرت تركيا الثانية من بين الاقتصادات الصاعدة التي تعاني الهشاشة.
ولم تتوقف سياسات أردوغان عند هذا الحد، إذ سارع بعد توليه أول رئاسة تنفيذية في يوليو الماضي، إلى تعيين صهره براءت ألبيرق، وزيرا للمالية، وهو قرار زعزع ثقة المستثمرين الذين تربطهم علاقات مع الوزير السابق محمد شيمشك، الذي كان يعاني قبل إقالته من تقليص صلاحياته.
وعبر المستثمرون عن قلقهم جراء غياب شيمشك، الذي يعتبر مؤيدا لاقتصاد السوق ومعارضا لسياسة التدخل فيه كما يرغب أردوغان.
استثمارات هاربة
وألحق الرئيس التركي القرار الوزاري بآخر، أكد فيه أنه سيعين محافظ البنك المركزي مباشرة، في خطوة جلبت نتائج سلبية للغاية على الليرة مع اتجاه المستثمرين لسحب أموالهم من الأسواق التركية، وفقما تحدثت تقارير لكنها لم تكشف أرقاما محددة.
وكان المستثمرون الأجانب سحبوا 771 مليون دولار من الأسهم المدرجة في البورصة التركية خلال الربع الأول من 2018، وفقا لبيانات من الودائع المركزية التركية للأوراق المالية.
وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا في 2017 بنسبة 19 بالمئة، وفق أرقام وزارة الاقتصاد التركية، ويعزى ذلك إلى حالة عدم اليقين التي سيطرت على البلاد في أعقاب محاولة الانقلاب منتصف عام 2016 وما تبعها من اضطرابات.
وإذا كان الجمهور العادي ينظر إلى سعر صرف العملة ومعدلات التضخم التي تمس تفاصيل حياته اليومية، فإن المستثمرين يأخذون عوامل أخرى في الاعتبار قد تدفعهم إلى الهرب من تركيا، قياسا إلى نظرية "رأس المال جبان".
تهور سياسي وخسائر اقتصادية
وأثار أردوغان سلسلة أزمات سياسية وصل بعضها حد التدخل العسكري، كان لها تداعيات اقتصادية خطيرة مع الجميع تقريبا، من الاتحاد الأوروبي إلى الدول العربية وأخيرا مع الولايات المتحدة بشأن القس المحتجز أندرو برانسون.
وسارعت واشنطن إلى فرض عقوبات اقتصادية على وزيري العدل والداخلية في حكومة أردوغان، كما فرضت رسوما بنسبة 20 في المئة على الصلب الواردات التركية و50 في المئة على الألومنيوم، الأمر الذي انعكس سلبا على الليرة، وعوض أن يحاول الرئيس التركي حل الأزمة عمل على تصعيدها.
وخاض أردوغان نزاعا دبلوماسيا مع الاتحاد الأوروبي الذي يعد الشريك التجاري الأول لأنقرة والمصدر الأول للاستثمار المباشر فيها، ووصل الأمر بالرئيس التركي حد إدراج 680 شركة ألمانية على قائمة الإرهاب في 2017.
ورغم أنه سحب القائمة لاحقا، إلا أن الأمر قوض ثقة المستثمرين بحكومة أردوغان وسياساتها، وأعلنت برلين مراجعة الاستثمارات في تركيا، داعية الاتحاد الأوروبي إلى إعادة النظر في اتفاقية الاتحاد الجمركي مع تركيا.
تخلٍ على المبادئ
وتناقض سياسة أردوغان مبدأ "صفر مشاكل" الذي دعا إليه وزير الخارجية التركي السابق مهندس الحزب الحاكم أحمد داود أوغلو، أي التخلص من الأزمات والتوترات مع دول العالم.
وبدا أن أردوغان متفرد في قرار الحزب والدولة، بعد أن أقصى عمليا اقتصاديين مؤيدين مثل شيمشك، وبدا مسيطرا على سياسة البنك المركزي.
وابتعد طوعا أو كرها أبرز الذين ساهموا في نجاح تجربة الحزب، فعبد الله غول هو المؤسس الفعلي لحزب العدالة والتنمية الذي يتمتع بشعبية كبيرة داخل الحزب وخارجه، توارى عن الأنظار بعد تدهور العلاقة مع أردوغان الذي منعه عنوة من الترشح للانتخابات الرئاسية في 2018.
واستقال داود أغلو من رئاسة الحزب عام 2016، بعلاقة متوترة مع أردوغان الذي كان قلقا من تصاعد شعبيته خلال رئاسته للوزراء لمدة عامين، وعمل على تهميشه قبل عزله عمليا عن الحكومة والحزب.
وإذا كان الاقتصاد الباب الذي دخل منه أردوغان إلى السياسة، فربما يكون أيضا باب الخروج منها، خصوصا مع تبدد "المعجزة" التي روّج لها كثيرا، وأقنع كثيرا من الأتراك بها، لكنهم لا يرون منها شيئا اليوم، وهو ما قد يؤدي إلى انهيار في شعبية السياسي وربما إلى رحيله.
فالإنجازات التي قال الرئيس التركي إنه أحرزها تهاوت، وعادت الأوضاع الاقتصادية تقريبا إلى الفترة التي سبقت توليه الحكم عام 2002، مضافا إليها أزمات مستفحلة مع حلفاء تركيا من الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، علاوة على جبهات مشعلة على الحدود الجنوبية مع سوريا.