مع اتساع رقعة المظاهرات والاحتجاجات في مدن إيرانية عدة ورفعها شعارات سياسية تطالب بإنهاء حكم الملالي، يتصاعد قمع السلطات خشية تحولها إلى ثورة شاملة تؤدي إلى إسقاط النظام، وتعتمد قوات الأمن على تكتيكاتها التي استخدمتها ضد مظاهرات 2009.
لكن الاحتجاجات الحالية تختلف عن تلك السابقة، التي اندلعت متهمة السلطات بتزوير نتائج الانتخابات لإنجاح الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، المقرب من المرشد الأعلى علي خامنئي.
ولجأت السلطة وقتها إلى حجة "شعبوية" تلقى قبولا لدى الأغلبية في إيران، نتيجة حملات التعبئة المستمرة، وهي اتهام من وقفوا وراء مظاهرات 2009 بأنهم "عملاء" للقوى الغربية المعادية للثورة الخمينية والجمهورية الدينية في إيران.
أما الاحتجاجات الحالية فتأتي تتويجا لعامين من الغضب الشعبي بسبب الأوضاع الاقتصادية التي تزداد سوءا، رغم الوعود بالتحسن نتيجة الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، وتوقعات رفع العقوبات على إيران.
لذا، من الصعب على السلطات الأمنية والسياسية في إيران اتهام المحتجين الآن بأنهم "نشطاء موالون للغرب"، لأنهم مواطنون إيرانيون عاديون غير قادرين على مواجهة تكاليف المعيشة، بينما يرون مليارات البلد تنفق من أجل تحقيق نفوذ عسكري خارجي في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
إرث أحمدي نجاد
مع فترة رئاسته الأولى عام 2013، بدأ الرئيس الإيراني حسن روحاني نهجا جديدا (ربما هو السبب في وصفه بالإصلاحي) بتغيير الكثير من السياسات الاقتصادية التي تضخمت في عهد سلفه أحمدي نجاد، وبغية تهيئة الاقتصاد للعودة للحظيرة الدولية، آملا في إنجاز الاتفاق النووي الذي تم بالفعل قرب نهاية فترة حكمه الأولى.
وكان أحمدي نجاد، بدعم من المرشد والقوى المتشددة التي يمثلها، توسع في سياسات الدعم لشراء سكوت الطبقات الشعبية محدودة الدخل على ارتفاع معدلات التضخم (وصل إلى 40 في المئة قرب نهاية حكم أحمدي نجاد)، ومعدلات البطالة.
وتدخل البنك المركزي بكثافة للحفاظ على سعر الريال الإيراني مستقرا أمام الدولار رغم تراجع قيمته الحقيقية.
وفي محاولته التخلص من إرث أحمدي نجاد، نجح روحاني في تحسين الأرقام الكلية للاقتصاد، لكن ذلك كان على حساب انكشاف الملايين من الإيرانيين محدودي الدخل على ارتفاع هائل في أسعار السلع الأساسية، رغم انخفاض معدل التضخم لما يزيد قليلا عن 10 بالمئة.
توقعات روحاني
اعتمد روحاني على أن رفع العقوبات سيمكن طهران من استقطاب الاستثمارات الخارجية وتوسيع النشاط في الاقتصاد، بما يؤدي إلى توفر وظائف تمتص البطالة، وكذلك زيادة إنتاج الطاقة بعد تأهيل قطاع النفط والغاز ومن ثم زيادة الدخل القومي.
لكن العامل الأهم الذي حال دون تحقق توقعات روحاني هو النفوذ الاقتصادي الهائل لقوى مصنفة إرهابية، حتى رغم الاتفاق النووي، مثل الحرس الثوري الإيراني الذي تمتلك ذراعه الاقتصادية شركات في أغلب القطاعات، ومنها قطاع النفط والغاز.
ورغم رفع عقوبات دولية قبل أكثر من عام، فإن عقوبات أميركية وأوروبية أخرى لا تزال تجعل الشركات العالمية تتردد في دخول إيران، خشية أن تقع تحت طائلة قوانين أميركية وغيرها تجرم التعامل مع كيانات إرهابية.
حتى قدرة الاقتصاد الإيراني على الانفتاح ولو جزئيا على العالم، لم تتحقق بسبب مخاوف القطاع المصرفي والمالي في العالم من أي شبهات لأموال لها علاقة بالإرهاب.
ولم تفلح محاولات بعض الدول الإقليمية (تركيا وقطر)، في مساعدة إيران على تجاوز تلك المشكلات والتعامل ماليا مع الخارج.
ومثال على ذلك، محاولة استخدام الذهب بدلا من النقد لتسهيل تعاملات إيران، هي لب قضية رجل الأعمال التركي المقرب من الرئيس التركي رجب أردوغان وجماعته رضا زراب، الذي يحاكم في نيويورك حاليا.
انتفاضة شعبية
لهذا طالت شعارات الانتفاضة الشعبية المرشد والرئيس معا، أو المتشدد والإصلاحي كما يصنفهما بعض الأكاديميين، لأن محرك الاحتجاجات هو سياسة النظام، الاقتصادية بالأساس.
وفي مارس 2016 رفع متظاهرون في أصفهان، يحتجون على تأخر رواتبهم وتدهور الأجور وزيادة كلفة المعيشة، لافتات تندد بالتدخل العسكري الإيراني في سوريا، ولم تكن مظاهرة سياسية، لكن العمال والموظفين الإيرانيين كتبوا شعارات ضد إنفاق أموال البلاد في سوريا بينما هم يموتون جوعا.
وفي مايو الماضي خرجت مظاهرات أمام البنك المركزي في طهران شكل غالبيتها إيرانيون عاديون فقدوا مدخراتهم في مصارف ومؤسسات مالية أفلست، وبعضها كان يعمل بطريقة "توظيف الأموال"، لكنها مؤسسات حكومية، منها مؤسسات تتبع ولو جزئيا إمبراطورية المرشد والحرس الثوري المالية.
وتكررت تلك المظاهرات في مدن عدة احتجاجا على شظف العيش وعدم تحقق وعود تحسين الأحوال رغم الاتفاق النووي.
في الوقت نفسه، يتابع الجمهور الإيراني حجم الرواتب الفلكية لكبار الموظفين المقربين من المرشد والرئيس، والمليارات التي تنفق على حملات إيران المسلحة في الخارج ودعمها لأذرعها المسلحة من حزب الله إلى الحوثيين.
وهكذا، سيصعب على السلطات الإيرانية اتهام الخارج، أو حتى قوى الداخل على قمة السلطة، بمعنى أن إصلاحيين ضد متشددين أو العكس، بالوقوف وراء الاحتجاجات، فهي انتفاضة شعبية على سياسة نظام حكم لم يحقق لشعبه أيا من وعوده على مدى عقود.