لقد كان هاجس الإنسان ومنذ البدء أن يقلد الطبيعة، ويتشبه بها. وما الفن إلا تعبير عن ذلك. فقد أخذ الإنسان يعبر عن رؤاه وهواجسه من خلال رسومه.
رسم الطبيعة بكل تجلياتها وما عجز عن رؤيته فقد تخيله. والأمر كذلك كان لابد من موضوعات، والموضوعات كانت بمتناول يده، واللوحة كانت جدراناً وفيما بعد باتت قطعاً من قماش لتستمر الحكاية حتى تصل تلك اللوحات إلى جسد الإنسان.
للوشم أو فن " التاتو" جذور قديمة تعود إلى اليابان فهو يعرف بفن " الإيريزومي". واشتقت الكلمة الإنكليزية تاتو tattoo من اللغة التاهيتية. يحول الوشم ضحاياه إلى قطعة فنية. ويعاني الموشوم من عملية تجميل صارمة تذهب معه إلى اللحد. وباستخدام المخرز والإزميل ( أسياد هذا الفن لا يستخدمون الإبر) تكتمل عملية تشويه فريدة للجسد ليصبح عملاً فنياً متقناً، بقدر ما هو مناف للطبيعة.
يحول هذا الأثر الفني المازوخي الجسد إلى لوحة، ويحول الجمال إلى شيفرات تدل على القمع والكبت أحياناً، وعلى القوة أحيانا أخرى. إذا كان الإيكيبانا فن تعذيب الأزهار فإن الإيرزومي فن رسم الألم على الأجساد البشرية.
ولمن قرأ رواية هرمان ملفل " موبي ديك" أو شاهد نسخة الفيلم لا بد وأن يخطر في باله شخصية " كويكويج" تلك اللوحة المتنقلة. عزي ذلك الفن في القرن الثالث ميلادي إلى شعب "وو" Wo وهم سكان جزر كيوشو الجنوبية في اليابان.
لقد كان رجال هذه الأقوام صغاراً وكباراً يشمون أجسادهم ووجوههم ويزينوها بأجمل الرسومات. وكانوا مغرمين بالغوص في أعماق البحار لاصطياد الأسماك والمحارات ليزينوا بها أجسادهم كي يبعدوا أسماك البحر ووحوشه الكبيرة.
لقد كان الهدف من الوشم في بداياته هو التشبه بالطبيعة أو التماهي معها. فصور الحيوانات التي كانت تظهر على أجساد البشر كانت أيقونات حاول البشر من خلالها أن يتقربوا إلى الطبيعة بكل تحلياتها.
فإذا كان الإنسان الأول رسم على جدران الكهوف والمغاور صوراً لما كان يخشى منه، فإن من أتى بعده نقل هذه الصور وتلك الرسومات إلى جسده ليحملها أنى ذهب. وفي كل مرة كانت ينتقل فيها ذلك الموشوم إلى مكان جديد كان يرسم على جسده عناصر من البيئة الجديدة ومن هنا تنوعت تلك " اللوحات" وبات الإنسان أيقونة متنقلة. لكن ومع مرور الزمن وتطور المجتمعات البشرية وتحولها إلى طبقات وفئات، خضع هذا الفن إلى تغييرات تساوقت مع التغييرات المجتمعية.
ففي الحقبة الإيدوية The Edo era التي امتدت فيما بين عامي 1603-1867التصق فن الوشم "الإيروزومي" بالطبقات الدنيا من المجتمع في الياباني وشكلت هذه الحقبة العصر الكلاسيكي للإيروزومي.
وحتى الفنان العظيم أوتامارو تخلى عن مطبوعاته العظيمة ليتفرغ إلى عدد هائل من رسومات الوشم.. ووصل الأمر إلى درجة أن بعض البشر الموشومين كانوا يبيعون أجسادهم سلفاً قبل أن يموتوا ليشكل هذا تجارة رابحة في ذلك الوقت.
لكن لم تتقبل جميع طبقات المجتمع هذا الفن بل وصل البعض إلى رفضه واعتباره ضرباً من شذوذ. ذلك أن هذا الفن التصق بالفئات المهمشة من المجتمع وكأننا بها تصرخ صرخة احتجاج يائسة.
ففي الوقت الذي كانت فيه تلك الفئات عاجزة عن التعبير بحرية، وجدت سبيلاً لإبراز احتجاجها من خلال تحويل أجسادها إلى لوحات تعبر من خلالها عن لا شعورها.
فإلى عهد قريب يرى المرء الوشم على أجساد العمال وأصحاب المهن وعشيري السجون ورجال العصابات وكأنه ضريبة المهنة والانتماء الاجتماعي.
لكن، وهذه سنة التاريخ انتقل هذا الفن شأن كل صرعة وتقليعة، إلى طبقات وفئات أخرى من المجتمع. ولم يعد هذا الفن لصيقاً بالمهمشين من المجتمع بل انتقل إلى فئات ميسورة بل ومتنعمة. ل
كن الأمر هذه المرة لم يكن رفضاً لا شعورياً للمجتمع بل على العكس كان تعبيراً عن فرض ثقافة فنية جديدة اقترنت بالأزياء والماكياج. وبات الوشم جزءاً مكملاً للمظهر دونه يبقى الجسد لوحة فارغة.