عزيزي ثيو: أحببت. ك. هذا الصيف. وعندما أفضيت لها بذلك أجابتني أن ماضيها ومستقبلها لا ينفصمان، وأنها لن تستجيب أبدا لمشاعري. عندئذ وجدتني مجبراً على حل مسألة رهيبة: هل أرضخ لردها " أبدا، لا، أبدا" أم اعتبر الأمر غير منته، وأحافظ على الأمل دون أن أرضخ؟ لقد اخترت الأمر الأخير

لو حدث وأحببت يوما يا ثيو، وبودي لو تفعل، لأن " للمآسي الصغيرة" قيمتها أيضاً. وصدقني عندما أقول لك ذلك....هناك مستويات ثلاثة للحب:

1-  ألا تحِب وألا تحَب.

2-    أن تحِب وألا تُحَب. ( وهذا هو وضعي).

3-   أن تحِب وتُحبّ .

ما تقدم عبارة عن جزء من رسالة الفنان التشكيلي العالمي فان غوغ إلى أخيه ثيو، وجرى نشرها أخيرا.

 ربما كان الفن هو الميدان الذي تتجلى فيه عذابات الإنسان أكثر ما تتجلى. فبوصفه خلاصة التجربة البشرية وخير من يعبر عنها، فهو ولا ريب المجال الأرحب لعناق آلام بني البشر.

أن ينهمّ الإنسان في إبداعات الغير، فذلك يعني أن يعيش حياة غير حياته. وأن يتفاعل مع الإبداع فهذا يعني أن يكتسب ثقافة وخبرة جديدتين. و أن يغوص المرء في شخصية المبدع فتلك أسمى أنواع المعرفة ذلك أنها تتضمن نوعا من التعاطف البشري.

لكن أن يعيش المرء حياة المبدع وفي الوقت ذاته يتفاعل مع إبداعه فذلك في رأي النقاد من أصعب الأمور.

إذا كان بعض المبدعين قد توحدوا مع موضوعاتهم على تنوعها، فإن ذلك ليعتبر تأوجاً في الحياة بحيث يصعب الفصل بين المبدع وإبداعه. ربما يصدق هذا الكلام في مجالات الإبداع العديدة لكنه يتجلى بصورة أكثر وضوحا في الفن، وهذا ما يجعلنا نقول إن قراءة اللوحة الفنية لا تعتمد على ذائقة بصرية فقط بل تحتاج إلى نوع من المشاركة الوجدانية والتعاطف البشري.

ففي غالب الأحيان  تكمن خلف خطوط  اللوحة حياة رسمت بالعذاب. و قلما سمع أحدنا عن عذابات بشرية دون أن يوشيها الحب واللوعة.  فبقدر ما يكون الحب مغروسا في الروح، فهو ناضج في الجسد.

"لعنة الاسم"

في الثلاثين من مارس عام 1852 وضعت إحدى السيدات طفلاً أسمته فنسنت فان غوغ . لكنه سرعان ما توفي.

وبعد عام تماماً وفي الثلاثين من مارس أيضاً  من عام 1853 أنجبت طفلاً آخر وأصرت على تسميته باسم شقيقه المتوفى.

عاش هذا الوليد  حياة أبت إلا أن تحمل له  كل العذاب. وكأنما قُدِّر لحامل الاسم أن يعيش حياة لم تجلب على من حوله سوى الأسى والمصائب.

عاش فان غوغ ذلك الفنان المعذّب المخبّل والذي أخذ يتضور جوعاً في سقيفة لا تصلح سوى للجرذان من أجل فنه الذي لم يجلب له سوى التعاسة في حياته، وحبه الذي أفقده أذنه التي قدمها طائعا لحبيبة لم ترده. لقد أراد أن يشتري ولو بقطعة من جسده نفحة حب.

إن فعل التشويه الذاتي المازوخي هذا ينطق بعذابات غوغ ونظرته إلى الحب بوصفه الفعالية الأكثر أهمية في الحياة. فقد عبر عن ذلك في قصيدة كتبها في عام 1885 عندما كان في الثانية والثلاثين من العمر:

شرورنا من النساء-يا له من سبب عويص، النهم للمال، النهم للخيانة.......

أكواب ذهبية اختلط فيها الرحيق بالعكارة

كل الجرائم، كل الكذب المفرح، كل الحماقات

منها. رغم هذا نهيم بها،

عندما اشتد المرض عليه في أواخر أيامه أشرف على علاجه غاشيت وهو طبيب كان به مسّ من جنون على حد تعبير فان غوغ والذي كتب رسالة إلى أخيه ثيو يقول فيها: " تصور يا ثيو:  طبيبي مريض نفسي وحالته تشبه حالتي".

ليس هذا فحسب بل انصبت لعنة فان غوغ أيضاً على ابن هذا الطبيب واسمه بول، و الذي أخذ يتجول يبيع لوحات منسوخة لفان غوغ وكأن تلك اللعنة أبت إلا أن تنزل على كل من كان حوله.