تتصاعد حدة معاناة اللبنانيين جراء الارتفاع المتواصل لسعر صرف الدولار الأميركي أمام عملتهم الوطنية المتهاوية، منذرة بحدوث انفجار اجتماعي، يكاد أن يصبح وشيكا جدا، على مستوى البلد بأكمله.
وتحتل مدينة طرابلس الشمالية، العاصمة الثانية للبنان بعد بيروت، موقعا متقدما على بارومتر قياس مستويات الانفجار الاجتماعي المرتقب، نظرًا للغبن الذي أصاب سكانها منذ عشرات السنين، مما أدى إلى إدراجها في خانة أفقر الدول الواقعة على حوض البحر الأبيض المتوسط، وفقًا لبيانات رسمية صادرة عن الوكالات المتخصصة في منظمة الأمم المتحدة.
خصائص المدينة وهواجسها؟
يُجمع الباحثون على أن التاريخ القديم خصّ طرابلس (تري بوليس) باحتضان أول مجتمع تعدّدي في منطقة الشرق الأوسط:
- "حيّ الصوريين" القادمين من مدينة صور.
- "حيّ الصيدانيين القادمين من مدينة صيدا.
- "حيّ الأرواديين" القادمين من جزيرة أرواد السورية.
لكن المدينة راحت تفقد ميزات تألقها، بالتدرج، سواء في أعقاب تأسيس "دولة لبنان الكبير" العام 1920 أو في أعقاب الحصول على الاستقلال عن فرنسا وانبثاق فجر "الجمهورية اللبنانية" العام 1943، لا سيما في محطتين هامتين:
- انقسام اللبنانيين بين أنفسهم على خلفية اشتداد الصراع بين "مصر الناصرية" و"حلف بغداد" العام 1958، مما أدى إلى وصول قوات مشاة البحرية الأميركية (المارينز)، للمرة الأولى، إلى الأراضي اللبنانية.
- اندلاع الحرب الأهلية العام 1975، مما كرّس الانقسامات السابقة، وأودى بحياة عشرات الآلاف من الضحايا، وأفسح المجال أمام تفشّي "النسخة الأولى" من ظاهرة التنظيمات الأصولية الإسلامية في طرابلس، قبل أن يُطوى ملف الحرب بأكمله في أعقاب التوقيع على "اتفاق الطائف" أواخر ثمانينيات القرن العشرين.
مشهد غامض
سرعان ما راحت طرابلس تخسر رونق ما خصّتها الجغرافيا به من نعمة للتظلّل بفيّ أرز الرب، والارتواء بالمياه المتدفّقة من وادي قاديشا المقدّس، والاحتماء بـ"جبل الفهود"، أي جبل تربل، والانفتاح على مختلف أنحاء العالم عبر البحر الأبيض المتوسط، لا سيما بعدما تأكد أن القيادات السياسية المتحكمة بمفاصل الحياة اليومية في المدينة بقيت بمنأى عن حركة إعادة الإعمار التي أطلقها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مطلع تسعينيات القرن العشرين، في العاصمة بيروت.
وحول غياب الخطط التنموية عن أجندات القيادات الطرابلسية، قالت فرح عيسى، الأستاذة الجامعية التي ترشحت للفوز بمقعد نيابي عن مدينة طرابلس خلال المعركة الانتخابية الأخيرة، في حديث لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن عدم وجود خطط للإنماء في عاصمة الشمال اللبناني يعود إلى سببين أساسيين:
- الأول هو وجود أشخاص لا يمتلكون الكفاءة المطلوبة في مراكز اتخاذ القرار بسبب افتقار الناخب إلى ثقافة وأسس الاختيار، إذ إنه دائمًا ما يدلي بصوته بحسب الطوائف والعائلات وينتخب أناسًا لا يملكون خططًا إنمائية.
- الثاني هو سبب سياسي، بحيث أن القرار قائم بتفقير لبنان وشعبه، وليس طرابلس فحسب، وذلك لكي يُصار إلى تطبيق أجندات سياسية خارجية في البلد.
نماذج عن الأجندات المطروحة
من بين النماذج المتوفرة حول حجم التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية اللبنانية، برز موضوع الثروات الغازية والنفطية الكامنة في أعماق البحار المحلية ليندرج في سياق الصراعات الدولية المحتدمة على منطقة الشرق الأوسط بأكملها، ومن ضمنها لبنان.
وتمثل أبرز هذه النماذج، مؤخرًا، في إبعاد لبنان عن ميادين التعاون مع شركات النفط الروسية المتخصصة لصالح شركتيْ "توتال" الفرنسية و"إيني" الإيطالية، مما أثر بشكل سلبي على العقد الذي وقّعته وزارة الطاقة مع شركة "روسنفت" لتشغيل مصفاة طرابلس، العام 2019، بعد أن كانت المصفاة قد توقفت نهائيًا عن العمل على مدى أكثر من 30 عامًا من الزمان.
نعمة الأيادي البيضاء
على الرغم من كافة السُحب القاتمة السوداء المتربصة بسماء طرابلس، فإن الأيادي البيضاء ما زالت تمتد إلى المدينة لتقديم العون لأبنائها، عن طريق النشاطات اللافتة التي يقوم بها رئيس "الرابطة الثقافية" رامز الفري لدى استقباله سفراء الدول الأجنبية، غير المندرجة في إطار الارتصافات الدولية الموجهة ضد لبنان، مثل السويد وإندونيسيا وكازاخستان.
وقال الفري لموقع "سكاي نيوز عربية"، عقب لقائه الأسبوع الفائت مع السفير الكازاخي رسول جومالي، إن المحادثات التي يجريها مع السفراء الأجانب تتمحور حول التجاوب مع يد العون الممدودة صوب لبنان، وبالأخص مدينة طرابلس، وفقًا للعناوين الرئيسية التالية:
- تشجيع العلاقات التجارية والاقتصادية والثقافية والإعلامية مع لبنان.
- تخصيص طلاب طرابلس ببعض المنح الجامعية للدراسة في السويد وإندونيسيا وكازاخستان، بما يسهّل عليهم متابعة دراستهم الجامعية في الخارج في ظل الأوضاع العصيبة التي يمر بها لبنان.
- إرسال رجال أعمال لبنانيين إلى تلك البلدان لمحاولة توطيد أواصر التعاون التجاري وفتح استثمارات وفرص عمل جديدة.
الفرص الضائعة
يذكر أن تداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الراهنة في لبنان أودت بحياة العشرات من أبنائه على متن "قوارب الموت" التي كانوا قد أبحروا على متنها، سعيًا إلى استكشاف بارقة أمل تتيح لهم فرصة التوجه صوب ملاذات آمنة، خارج نطاق دوائر عيشهم المظلمة.
ويُشار هنا إلى أن ضحايا "قوارب الموت" غالبًا ما كانوا ينطلقون، صوب حتفهم المكتوب على جبينهم، من سواحل غالبًا ما كان المرجوّ منها أن تكون نقطة ارتكاز لمقومات العيش الكريم.
كما يُشار أيضًا إلى غياب المشاريع السياحية عن أجندات المستثمرين المحليين والأجانب، لا سيما في مناطق الجذب مثل كورنيش الميناء وجزيرة الأرانب والمعرض الدولي، أفقد أبناء طرابلس الآلاف من فرص العمل، مما ينذر، اعتبارًا من الآن وحتى إشعار آخر، بأن المستقبل لن يكون أفضل مما مضى.