في الوقت الذي تمتلئ به عيادات طب النساء والتوليد والعقم في المغرب بأزواج بسبب تأخر الحمل، ويقدمون الغالي والنفيس خلال رحلة بحث قد تستغرق سنوات عن طفل من صلبهم، ترفض فئة أخرى تصف نفسها بـ"اللا إنجابية" قدوم المزيد من الأطفال إلى هذا العالم.

لم يعد الأمر مجرد فكرة شخصية تراود البعض، بل "فلسفة" و"أسلوب حياة" تتبناه فئة من الشباب في مقتبل العمر، فضلوا البقاء من دون أطفال، يؤكدون أن قرارهم "عقلاني" لا ينبع من أزمات نفسية مروا بها، لكن بسبب "حاضر صعب ومرير ومستقبل ضبابي"، بل إن بعضهم يراه ضرورة ملحة أمام التحديات البيئية والاقتصادية التي يمر منها العالم اليوم.

وفلسفة "اللا إنجابية" ليست وليدة اليوم أو "موضة" تم استيرادها من الغرب حديثا، وإنما كانت حاضرة في الحضارة اليونانية وعبر عصور متتالية، تبناها بعض الفلاسفة مثل الألماني آرثر شوبنهاور والروماني إميل سيوران، ثم الجنوب إفريقي دافيد بيناتار الذي اشتهر بتأييده لمناهضة الإنجاب عبر كتابه "من الأفضل ألا تكون أبدا: ضرر الوجود".

ووفقا للمختص في علم النفس رضا المحاسني، فقد كانت "اللا إنجابية" حركة هامشية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكنها أخذت اليوم منحى آخر.

ويوضح في حديث مع موقع "سكاي نيوز عربية": "هذه الحركة ولدت في البداية بسبب الحالة الاقتصادية التي كانت تمر بها أوروبا مع ندرة بعض المواد الأساسية، إلا أنها في السنوات الأخيرة أخذت منحى فلسفيا، حيث شاعت التساؤلات حول ما إذا كان الإنجاب خيرا أو شرا، باعتباره عملية إعادة إنتاج للمعاناة، والرغبة في الإنجاب تنم عن الأنانية واللامبالاة بمصير الأطفال وفق هذه الفلسفة".

إضراب الرضيع عن الرضاعة الطبيعيّة

 

أخبار ذات صلة

ما سبب الجدل حول اشتراطات الزواج الجديدة في مصر؟
سياسي بولندي يقدم تفسيرا "غريبا" لقلة الإنجاب

قناعات ومخاوف

لكن في غالب الأحيان، فإن من قرروا عدم الإنجاب في المغرب لم يتخذوا هذا القرار لأنهم تشبعوا بكتابات الفلاسفة أو غيرهم، وإنما أغلبهم امتنعوا عن خوض هذه التجربة الإنسانية انطلاقا من قناعاتهم وتخوفاتهم.

وتؤكد فاطمة، وهي مراقبة جوية لا يتعدى عمرها 31 عاما، أنها ترفض الإنجاب بسبب اقتناعها بأن "العلاقات بين الأزواج ليست صحية".

وتوضح لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن "الأزواج اليوم أقل توازنا ورضا، والأطفال يستحقون أن يكبروا في بيئة صحية. لا أعتقد في الوقت الحالي أنني أستطيع توفيرها. لا أملك ما يكفي من المال لتسجيلهم في أفضل المدارس وتزويدهم باحتياجاتهم الأساسية أو الثانوية. ليس لدي الدخل المالي المستقر الذي يسمح لي بالتوقف عن العمل لمدة سنتين أو 3 بعد كل ولادة من أجل الرضاعة الطبيعية والحضور خلال السنوات الأولى من حياتهم من دون الاعتماد على مربية أو جدة".

أما نهيلة (26 عاما) المتحدرة من مدينة أسفي التي تعمل خبيرة تسويق، فتعتبر في حديثها لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن "العالم يمر بمرحلة عدم استقرار".

وتتابع: "أوبئة. حروب. بطالة. تضخم. لست مستعدة لجلب كائن بشري إلى عالم غير متوازن وأطلب منه أن يقتل نفسه ليجد مكانا في هذا المجتمع. كان هذا رأيي قبل الزواج واليوم أنا وزجي نتفق على عدم الإنجاب".

وعكس ما يظن البعض ويتعجب آخرون من رفض "اللا إنجابيين" سماع كلمتي "أبي" أو "أمي" من أفواه بريئة، فإنهم جميعا يؤكدون أن حبهم ورأفتهم الكبيرة بالأطفال هي ما يمنعهم من الإقدام على هذه الخطوة.

لهذا تفضل ريم، وهي من مدينة الدار البيضاء، كفالة أطفال بدل إنجاب آخرين في "عالم وحشي"، وفقا لما جاء في حديثها لموقع "سكاي نيوز عربية".

وتقول ريم: "إنجاب أطفال في هذا العالم القاسي بظروفه الحالية هو جريمة. إن استيقظت في داخلي أو في داخل زوجي الرغبة في الأمومة أو الأبوة، قد نكفل طفلا موجودا بالفعل في هذه الحياة من دار أيتام. سنحاول منحه حب الأم ورعاية الأب بدلا من أن نضيف أطفالا آخرين إلى هذا العالم البائس".

يوم كان الإنجاب جريمة

محاصرة المجتمع

وتختلف ردود فعل الأسرة والمحيط، خاصة من أبوي الزوج أو الزوجة، بين التقبل والرفض، فيما يختار البعض عدم الإفصاح عن قراره تجنبا للنقاش أو الإزعاج أو المقاطعة، حيث يراهن المجتمع على أن الأطفال "ونس وعكاز" عند الشيخوخة، واستمرارية للحياة وضرورة ملحة قبل أن يفوت قطار الإنجاب.

ويقول عالم الاجتماع فؤاد بلمير، إنه "لكي تتخذ المرأة هذا القرار في المغرب، يحب أن تكون لها خلفية ثقافية وفكرية وفلسفية قوية، أو أن المجتمع سيحاصرها".

ويشير بلمير لموقع "سكاي نيوز عربية"، إلى أنه "في المجتمع المغربي بدأ بعض الأزواج يفكرون في عدم الإنجاب بسبب التحول الدولي الذي انخرطت فيه المملكة بشكل كبير، كما أن بعضهم يريد عيش حياته ويستمتع بها من دون أن يضحي من أجل الأبناء".

ولعل هذا ما يحاول نقله عزيز، من الرباط، في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية"، حيث يقول: "أنا لست مستعدا ماديا ونفسيا لإنجاب طفل. لست مستعدا للتضحية بوقتي وساعات نومي. هذا بالإضافة إلى العوامل الخارجية، مثل تغير المناخ وزيادة عدد السكان وتفشي الكراهية في العالم".

لماذا يشعر الشباب اليوم بضغط أكبر بشأن الزواج والإنجاب

لا أرقام رسمية

وحتى الآن، تغيب الأرقام الرسمية التي تفيد بأعداد أنصار "اللا إنجابية" في المغرب، إذ يكتفون بالانضمام إلى مجموعات تمثلهم على منصات التواصل الاجتماعي.

لكن حسب آخر تقرير للمندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة إحصاء رسمية في المغرب)، فإن معدل الخصوبة في صفوف نساء المغرب في منحى تراجعي، حيث انخفضت النسبة من 2.1 بالمئة سنة 2003 إلى 1.9 بالمئة سنة 2020 في الوسط الحضري، بينما انخفضت، خلال الفترة نفسها، من 3.0 بالمئة إلى 2.4 بالمئة في القرى.

وترجع أسباب هذا الانخفاض وفقا للأخصائي النفسي، إلى "تأخر سن الزواج، وإن توفرت الظروف المادية فإن قرار الإنجاب قد يستبعد نظرا للمصاريف الباهظة التي تتبعه"، إلى جانب "تداعيات الحجر الصحي خلال فترة انتشار وباء كورونا، وتردد الآباء في إنجاب أطفال نتيجة غموض المستقبل".