كثيرة هي الأغاني التي أُلفت ولُحنت في حب الإسكندرية وأهلها، ولا عجب في ذلك فالمدينة التي بناها الإسكندر المقدوني في العقد الثالث من القرن الرابع قبل الميلاد، تمتد على ساحل البحر المتوسط لمسافة تزيد عن 50 كيلومترا، وبقيت لنحو ألف عام عاصمة للبلاد.
وفي العصر الحديث، كانت المدينة نافذة مصر المشرعة دوما على الحضارة الغربية، فسبقت العاصمة على طريق التمدن والحداثة، واكتسبت بتنوع ثقافات ساكنيها شخصية فريدة داخل نسيج الإبداع المصري متعدد الألوان.
وقال وسيم محيي الدين، وهو خبير سياحي من أهل المدينة: "تجد أبناء الإسكندرية تشربوا ثقافتهم من الخواجات (الأجانب) الذين كانوا يقيمون في المدينة، مثل الإيطاليين والأرمن واليونانيين والفرنسيين. هناك جاليات أجنبية كثيرة وهذا ترك أثره على أهل الإسكندرية".
وفي عام 1892، ولد سيد درويش في حي كوم الدكة، وبعده بعام واحد ولد بيرم التونسي في حي السيالة، وهما حيان شعبيان كان لهما أبلغ الأثر في تشكيل وعي وصياغة وجدان الرجلين.
الأول أحدث ثورة فنية بكل ما تحمله الكلمة من معاني، فمُنح لقب فنان الشعب.
وفي هذا الصدد، قال الشاعر خالد هلال لـ"سكاي نيوز عربية": "إبداع درويش يعيش معنا حتى الآن، فقد قدم في 6 سنوات أكثر من 20 أوبريت وأكثر من 200 لحن".
وبدوره، قال الموسيقار حازم شاهين: "سيد درويش دخل في الحمض النووي الخاص بنا كشعوب، لأنه كان صادقا جدا وكان يحترمنا. لقد قدم لنا أغاني الدقيقتين إلى جانب لزم للأغاني".
أما بيرم ذو الأصول التونسية، فقد صهرته التجارب الحياتية صبيا بعد رحيل أبيه، وتشكلت موهبته الشعرية في سنوات ما قبل ثورة عام 1919، بكل ما تحمله تلك المرحلة من ثراء على مختلف المستويات.
وبسبب قصائده المناهضة للملك فؤاد، حاكم مصر آنذاك، نُفي بيرم التونسي خارج البلاد، ليعود متخفيا إلى الإسكندرية ويلتقي سيد درويش.
وقال هلال: "عندما نفي بيرم حوالي سنة و4 أشهر، غيّر في جواز سفره وعاد إلى مصر، حيث استقبله درويش في بيته".
وقدم درويش وبيرم معا العديد من الأغاني والأوبريتات الوطنية، وعبرت إبداعاتهما الفنية عن ثورة الشعب الكبرى في عام 1919، وبقي نموذج درويش وبيرم مظلة جامعة للإبداع السكندري في الموسيقى والغناء.
ومن تحت عباءة الاثنين، خرج مبدعون كثر، بعضهم كتبت له الشهرة وبعضهم لم ينل حظه من الذيوع والانتشار.
وأوضح شاهين: "أنا مثلا تعلمت أول درس موسيقى عند الأستاذ محمد عفيفي، وهو من الأشخاص الذين التقوا درويش، وكانت لديه موهبة كبيرة ويحفظ اكثير من التراث العربي مثل الموشحات والأغاني والأدوار، وغيرها".
وأضاف هلال: "أحمد السمري وعبد العليم القباني ومحمد مكيوي، هؤلاء شعراء فطاحل من أبناء الإسكندرية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، لكنهم لم ينالوا حقهم في الشهرة".
موجة إبداعية تلو الأخرى.. هكذا عاشت الإسكندرية بعد رحيل درويش مطلع العشرينيات وبيرم مطلع الستينيات، فبدرية السيد، على سبيل المثال، مطربة سكندرية مثلت وأقرانها من مطربي الغناء الشعبي موجة إبداع خاصة في بحر الفن السكندري الواسع.
وفي السنوات الأخيرة، خرجت من الإسكندرية أيضا موجات أخرى من الغناء، بعضها ينهل من منابع الفن السكندري القديم الشاب. ومن بين هؤلاء المطرب الشاب خالد حميدة.
وقال حميدة لـ"سكاي نيوز عربية": "كنت أغني في كورال المدرسة، ثم أخذتني مدرسة الموسيقى إلى دار الأوبرا، وهناك تعلمت كل شيء".
أما البعض الآخر من أبناء المدينة، فينتمي لما أصبح يعرف بظاهرة "أغاني المهرجانات"، التي أثارت جدلا واسعا.
ويقدم أبناء المدينة الموصوفة بمدينة الثقافة والفنون، أجيالا جديدة من المبدعين. وفي هذا السياق قال محيي الدين: "نحن نقول إن الإسكندرية مدينة الثقافة والفنون، لأنها خرّجت فنانين كبار، ولأنها من أكثر المدن التي قُدمت أغاني لها، سواء من مطربين ينتمون لها أو من غير أبناء المدينة، مما يؤكد على أهميتها".