أصدرت دار "غاليمار" الفرنسية للنشر هذا الأسبوع، مخطوطات الكاتب الفرنسي لويس فيرديناند سيلين، مؤلف "رحلة إلى أعماق الليل" و"الموت بالتقسيط"، والتي تتكون من روايتين "حرب"، كما أعلنت إصدارها رواية "لندن" في وقت لاحق بعد تدقيقها.
وترك سيلين مخطوطات عددا من رواياته في عام 1944 بمنزله بعد فراره إلى الدنمارك خشية انتقام السلطات منه بعد نجاح الحلفاء في تحرير باريس.
وأعاد جان بيير تيبودات المخطوطات التي كانت مودعة لديه لورثة سيلين في صيف عام 2021.
ويبدو أن إصدار رواية "حرب" لسيلين، والتي تصف الرواية الفرنسية، من قبله ومن بعده، إحدى "مخطوطات سيلين المسترجعة"، والتي أصدرتها دار "غاليمار" حيث خرجت للنور بعد مرور 88 عاما، طُبع منها نحو 80 ألف نسخة كإصدار أول، علما أنها تتكون من 190 صفحة.
مما لا شك فيه أن صدور هذه الرواية مع خلفيات سيلين، أثارت ردود أفعال عديدة، وصدرت مقالات عديدة في هذا الصدد، مثل مقالة فيليب روسين بعنوان "العار والوطن: عودة إلى قضية سيلين".
تعبّر "حرب" عما تركته الحرب من آثار وانكسارات على طريقة سيلين الأدبية المعروفة بالسرد المتدفق.
وتعمل المقدمة التي كتبها المحامي فرانسوا جيبولت ليست فقط لإضفاء الشرعية على مؤلفها، بل أيضا لتبرئته من كل الاتهامات بمعاداة السامية رغم العنف الذي طغى عليها.
وبذل محرر الرواية، باسكال فوشيه، جهودا كبيرة لإخراج هذه الرواية إلى النور، خاصة أن الكاتب معروف بكثرة تشطيباته وإضافته إلى النص.
وباعتباره طبيبا كان يختصر الكلمات على طريقة كتابة الوصفة الطبية، ومن هنا تنبع صعوبة تنقيح أعماله التي تركتها والتي تقدر بـ6000 صفحة.
كذلك برز استخدامه للكلمات العامية من اللهجة الدارجة ودمجها بالفصحى، الأمر الذي صعّب من مهمة التدقيق والتمحيص.
وتشبه روايته الحالية "حرب" Guerre رواية سابقة له بعنوان Casse-pipe أي "حالة خطرة" التي تحكي عن الحياة في الثكنات.
في الرواية الجديدة يتحدث سيلين عن الجثث المكدسة التي كان الكاتب يبحث بينها عن منفذ للحياة.
ينتقل بعدها سيلين في سرده إلى فترة النقاهة في بلدة صغيرة هي "بيوردو سور ليز" تستقبل القوات من جميع المعارك، وتتواصل المعارك من خلال طلقات المدفع ومرور الجنود، بالتناغم مع أحاسيسه، وآلامه ورغباته، ومن خلال الذكريات وأحلام اليقظة لعقل معرض للهذيان والأرق ويهاجمه الطنين.
وتكشف الرواية أيضا عن سلوك السكان في العمق، غير القادرين على فهم الجندي، ويركز على السخرية من الموظفين وحماقتهم من خلال توزيع الميداليات على الجنود الناجين من الحرب.
ويترافق عنف الحرب مع عنف التركيب اللغوي فيقوم الكاتب بعمليات التقطيع، والمونتاج و"الكولاج" في النص الروائي، كمحاولته نسخ كلام جندي مقطوع اللسان مثلا، كما يقول على لسان بطل الرواية فيرديناند: "لم نعد نسمع الآخرين، ولم نعد نتحدث عن لغة مشتركة. الحرب تحرم الرجال من إنسانيتهم".
وخلافا للمثلين والشهود الآخرين على الحرب، اختار سيلين إعادة إنتاج العنف كعادته.
ليس من السهل قراءة سيلين لأنه لغته تتضمن شحنة عاطفية كبيرة للهجة الدارجة، وهو القائل "لا يوجد إبداع إلا من خلال إبداع اللغة"، كما أن رواية "حرب" الجديدة، تتميز بضراوة لغتها "الهذيانية"، لكن صدورها يعتبر الولادة الثانية لهذا الكاتب الذي ما زال يثير المشهد الأدبي، ويجعله يتأرجح بين مناصرين وأعداء لأدبه.