بعيدا في الأفق، وسط غابة الرميلات بطنجة شمالي المغرب، تظهر بناية بيرديكاريس بلونها الأبيض الساطع كقطرة حليب وسط غطاء نباتي كثيف يطل على البحر المتوسط.
يقع القصر فوق ربوة تطل على مضيق جبل طارق، وهناك خلف المعبر الذي يفصل بين قارتين، تظهر الضفة الجنوبية للجارة الإيبيرية التي لا تبعد عن هذه البقعة سوى بكيلومترات معدودة.
إنه بيت معزول عن العالم، بناه مواطن أميركي من أصل يوناني، يدعى إيون بيرديكاريس، عام 1878 في قلب غابة الرميلات لاستقبال زوجته المصابة بمرض السل، كعربون للمحبة، حيث بني القصر بأسلوب معماري تركيبي يجمع بين الأسلوب الأنجلوساكسوني والطراز الكلاسيكي الوسيط الذي يستحضر شكل قلاع أوروبا.
هذا الفضاء التاريخي تحول اليوم إلى متحف يجمع بين التعريف بهذه الشخصية التاريخية ويستعرض التنوع البيولوجي لهذه المنطقة وللجهة ككل.
وبحسب القائمين على المشروع الثقافي، فإن العرض المتحفي ببناية قصر بيدريكاريس يتميز بالغنى والتنوع، حيث يأتي افتتاح البناية في إطار فعاليات "شهر التراث".
حياة جديدة لـ"بيرديكاريس"
وقد افتُتح السبت 23 أبريل بالمنتزه الحضري بيرديكاريس، غابة الرميلات، مركز تعريف التراث "بيرديكاريس" بحضور عدد من المسؤولين على الجهة، بغرض فك العزلة عن هذه المعلمة التي تدور حولها الأساطير والحكايات ومن أجل إعطائها حياة جديدة.
المدير الجهوي للثقافة بجهة طنجة كمال بنليمون قال في تصريح لوسائل الإعلام، إن "أشغال الإصلاح والتأهيل والتجهيز التي استفادت منها هذه المعلمة التاريخية جعلها تنبعث من أنقاضها بعد عقود من الإهمال"، مبرزا أن توظيفها كمركز تعريف التراث يروم "إغناء البنيات الثقافية وتثمين دور التراث المعماري الأصيل منه والذي يعود لفترة الاستعمار في ضخ دينامية جديدة في مسارات السياحة الثقافية للمدينة والجهة".
بدوره، اعتبر المدير الإقليمي لقطاع المياه والغابات بجهة طنجة أكعبون حليم أن افتتاح هذا المركز يتزامن مع لحظة فارقة تتميز بإطلاق استراتيجية "غابات المغرب 2020 – 2030 على أرض الواقع"، موضحا أنها خطة تعكس التوجه الجديد في تدبير الموارد الطبيعية للمغرب، لاسيما ما يتعلق بتثمين المناطق المحمية وانفتاحها على الساكنة المحلية والزوار عموما.
مكان لصناعة الفرجة
من بين الحاضرين أيضا في حفل تدشين مركز بيرديكاريس بطنجة رشيد أمحجور مدير قصر الثقافة والفنون بطنجة، الذي أكد أن موقع القصر يحبس الأنفاس نظرا لجمال المناظر المحيطة به، من غابة وبحر وجبل، مشيدا في الوقت ذاته بطريقة تنظيم المعروضات داخل المتحف وجماليتها.
وتابع أمحجور في تصريح لـ"سكاي نيوز عربية" أن هذا المكان سيحظى بدون شك باهتمام مختلف الشرائح من كل جهات المملكة نظرا لأهمية المركز في التعريف بالتراث المغربي.
واستطرد المتحدث قائلا: "إذا كان هذا الموقع الطبيعي قد جمع كل هذه الصفات الرائعة، فإنه سيظل في حاجة شديدة إلى مقهى ومطعم للترحاب بزوار، سيحبذون مما لا شك فيه المكوث لمدة ليست بوجيزة. وبمجهود بسيط لتهيئته، سيتحول هذا المكان إلى أحد أجمل الفضاءات المغربية على الإطلاق، يمكن أن تشهد تنظيم سهرات وفرجات فنية متنوعة وسط غابة بيرديكاريس، وبهذا ستحقق للجمهور متعة فنية ولحظات علاجية في الهواء النقي، باعتبار غابة الرميلات المحيطة بالقصر في حد ذاتها رئة لطنجة برمتها."
قصة هوليوودية للقصر
على مدى سنوات طويلة، كان قصر "بيرديكاريس" يثير الإحساس بالغموض والرهبة، نظرا لمكانه الغريب وبعده عن المدينة، فتناسلت الحكايات والأساطير، ولم يجرؤ إلا العارفون بقصته الفذة الاقتراب منه.
سأبني لك قصرا في أجمل أماكن العالم”، بهذا الوعد الذي قطعه "إيون بيرديكاريس"، وهو دبلوماسي ورجل أعمال أميركي من أصل يوناني، لزوجته التي كان يعشقها إلى حد الجنون.
أحضر إيون شتائل أشجار من مختلف قارات العالم وأنشأ ملاجئ للحيوانات والطيور كهدية لزوجته المصابة بالسل.
لم تكتمل فرحته بعد أن دخل المتمرد أحمد الريسوني على الخط، هذا الأخير كان ثائرا على الوجود الإسباني آنذاك وكان بحاجة للمال لتمويل ثورته.
في مايو 1904 توجه الريسوني رفقة مقاتليه ليخطف زوجة إيون والابن "كرومويل"، مشترطا على الزوج المتيم بزوجته 70 ألف قطعة ذهبية، مما جعل القنصل يستنجد بالسلطان مولاي عبد العزيز وبالولايات المتحدة.
تم تحرير الزوجة، لكن الغريب في الأمر، بحسب مؤرخين، أنها لم تشكو من الاختطاف، بل أشادت بـ"بسالة" الريسوني الذي اعتبرته "بطلا" يقاوم من أجل تحرير بلاده، حيث تم تصوير القصة بأكملها في فيلم العاصفة والأسد عام 1979 من بطولة شون كونري.