عرفت تونس صناعة الفخّار منذ عصور بعيدة وتطور وتنوع مع تنوع الحضارات التي عرفتها البلاد، حيث أشتهر البربر بالفخار اليدوي لصنع أواني الطبخ والزينة والتخزين، والتي لاتزال إلى اليوم رائجة في منطقة سَجنان بالشمال التونسي.
ومع قدوم الفينيقيين الذين نشطت تجارتهم محليا وعبر موانئ البحر المتوسط، كان لصناعة الفخّار نصيب كبير من اهتماماتهم حيث طوروا أنواعا جديدة مثل القناديل والجِرار المستعملة للتخزين والتصدير.
كما برع الأغالبة في صناعة الخزف ذي البريق المعدني، واعتمدوا الزخرفة على الأشكال الحيوانية والنباتية والهندسية مع استخدام الألوان المختلفة.
وشهدت تونس أيضا تطورا هاما في صناعة الفخّار بقدوم الأندلسيين واستقرارهم في عديد المناطق بالبلاد واشتهروا بصناعة خزف "الكواردا سيكا" الذي لقي إقبالا كبيرا لدى السكان آنذاك.
طريقتان
وظلت طريقتان سائدتين في صناعة الفخّار: الأولى بواسطة الدّولاب الدّائري وقد اختص به الرّجال، والثانية باستعمال الفّخار المطوّع الذي برعت فيه النّساء وأصبح إنتاجه لصيقا بهن، ويتركز في الأوساط الرّيفية التي تولي اهتماما كبيرا بالعادات الغذائية حتى أنه سُمي بـ"الخزف الريفي".
وأبرز مثال على ذلك صناعات منطقة سَجنان التي امتهنت نسوتها هذه المهنة في امتداد لنمط متوارث عن الأجداد، حيث أصبح إنتاجهن يحظى بإقبال من قبل السياح والتونسيين على حد سواء، إلى درجة أن فخّار المنطقة تم إدراجه ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة عام 2018.
في وجدان النساء
صناعة الفخاّر تسكن وجدان كل امرأة في منطقة سَجنان الجبلية التابعة لمحافظة بنزرت بشمال البلاد.
بتجاعيد تروي متاعب الزمن، وبأيدي مبلّلة بعرق تعب السنين، وبعيون مليئة بالعزم والأمل تجد المرأة السَّجنانية منهمكة بين أوانيها، منغمسة تصنع تارة "كانونا" وتارة أخرى عروسا للديكور بملامح سجنانية.
وبفضل نوعية إنتاجها تم إدراج فخّار المنطقة رسميا، ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو، وهو فن تتقنه أمّيات لم يدخلن المدارس يوما ولا أعتاب الجامعات بل كل ما بحوزتهن صنعة الأجداد تم الحفاظ عليها وإتقانها بكل حب وتفان.
ويتميّز فخار سَجنان بنوعية الطين الغنّي بالكلس، وبنقوش مختلفة ورسومات تحكي نمط حياتهن أحيانا.
سامية معتزة بعملها
سامية السعيداني، أصيلة منطقة "القتمة" بسَجنان، هي واحدة من الحرفيات، استقبلتنا بينما كانت في استراحة غداء بعد ساعات من العمل منذ الصباح الباكر.
وتحدثت إلى موقع "سكاي نيوز عربية" عن اعتزازها بالخبرة التي اكتسبتها من كل من والدتها وجدّتها، وقالت: "عائلتنا متمسكة بالحفاظ على صناعة الفخّار التي تمثل أول مصدر رزق لنا، وقد تعلمت صناعة الفخّار البلدي التقليدي منذ كنت في الصف الإعدادي، لمساعدة أسرتي في جلب الطين وتهيئته ثم في تشكيل الأواني على غرار"الكانون" بأحجام مختلفة وهو عبارة عن موقد يستعمل في أغراض متعددة كالتدفئة والطبخ والبخّور، فضلا عن أواني الطبخ والطعام وتحف الزينة والديكور".
وسردت مراحل الإعداد والإنجاز: "نقوم مرة كل أسبوعين بكراء سيارة للذهاب إلى مرتفع الجبل لجلب الطين الأحمر من هناك ثمَّ نضعه في الماء ونقوم بترطيبه بالساقين ثم نعجنه بالأيادي حتى يتماسك ويصبح غير قابل للكسر بسهولة، وبعد ذلك نضع مادة "التافول" التي تكون من مسحوق بقايا الأواني التي كُسرت ، ثم نبدأ في صناعة مانريد، ولعل أصعب مرحلة هي تلك التي نقف فيها أمام الفرن وقتا ليس بالقصير لطبخ الأواني أو حرقها بالنار..إنه أمر متعب بالنسبة لنا ولكننا نقوم به عن حب وشغف لمهنة الأجداد".
سارة شغوفة
أما سارة السعيداني، وهي أم لأربع بنات أكبرهن تبلغ من العمر 30 عاما، فقد حدثتنا عن شغفها بصناعة الجدود كما لقبتها، وعن تجربتها بإحدى الجامعات الفرنسية في تعليم الطالبات هذا الفنّ الذي تولي له بعض الأوساط الفرنسية أهمية.
وقالت: "تجربتي في صناعة الفخّار بدأت منذ كنتُ طفلة في بيت أهلي وكانت تلك صنعتنا الأولى ومورد رزقنا، وقد أحببتُ ماكانت تقوم به أمي وحاولت التعلّم منها تدريجيا حتى صرتُ اليوم محترفة أشارك في مختلف المعارض في مختلف المحافظات التونسية، وقد ساهمتُ منذ سنوات في تدريب فتيات في كيفية صناعة الأواني بالطين بطريقتنا التقليدية القديمة دون الإعتماد على أي آلة تساعدنا، وهو سرّ عملنا".
وأضافت: "نحن هنا في سَجنان تسير كل مراحل عملنا من الألف إلى الياء بطريقة تقليدية،صحيح أنها صعبة لكنها ممتعة".
الصعوبات
وعن الصعوبات التي تواجهها، تقول سارة :" نحتاج إلى مكان واسع نحفظ فيه إنتاجنا،كما أننا نعاني من عدم تشجيع الدولة لنا وغياب الدعم ولو بقروض صغرى تمكّننا من تأمين بعض المستلزمات والعمل في ظروف مريحة ، كما نلتمس تأمين الإقامة لنا حين نشارك في المعارض خارج منطقتنا،علما أن الهياكل المختصة تدعونا إلى المشاركة في حين لا توفّر لنا المبيت وهو مشكل ظللنا نواجهه باستمرار".
بدورها، تقول الباحثة في مجال التراث، فاطمة بلغيث في حديث مع موقع" سكاي نيوز عربية": "إن الفخّار ميّز "السجنانية" عن غيرها من الحرفيات في تونس، وهو ما يفسر اعتماد منتوجه من قبل منظمة اليونسكو في اتّفاقية تصنيف التراث الّلا مادي ضمن القائمة العالمية الإنسانية.
وشرحت محدثتنا، التي زارت المنطقة عدة مرات، كيفية استعمال الطين الجبلي من قبل نساء سجنان بدءًا بجلبه من مواقعه بالجبل مرورا ببقية مراحل الإعداد والإنتاج استهاما من طرق الأجداد التقليدية، وصولا إلى عملية التسويق في ظل امكانيات بسيطة على غرار نصب خيام بلاستيكية على الرصيف أو اتخاذ البيوت نقاط بيع، أي بطريقة "من المنتج إلى الحريف دون وسيط أو مضاربة".
ودعت إلى إيلاء هذا التراث الثقافي في سجنان أهميته التي يستحقها حتى يصبح أداة تواصلية تثاقفية تمتّن العلاقة بين مختلف الأجيال.
وأثنت على مجهودات نساء سجنان اللائي يبذلن قصارى جهدهن للتألق والنجاح وإيصال تراثهن إلى مستوى العالمية ليساهم في التعريف بتونس وتنشيط السياحة.
من جهتها، أعربت زينب بن فرحات، منسّقة "مجمّع سجنان" لصناعة الفخّار، في حديث مع "سكاي نيوز عربية" عن اعتزازها وفخرها بأن يكون لمنطقتها سجنان "هذا الإشعاع المحلي والعالمي، وهو ما يدفعنا إلى مزيد البذل والإبداع في تحدٍّ للصعوبات القائمة.
وتطرقت فرحات، إلى بعض هذه الصعوبات خاصة عقب "ثورة"2011 حين انتشرت في المنطقة جماعات متطرفة ما عطّل عمل الحرفيات اللواتي وجدن أنفسهن مجبرات على المكوث من دون عمل بسبب الوضع الأمني الذي أدى إلى انقطاع الحركة السياحية وامتناع الناس عن زيارة المدينة لاقتناء ما يرغبون فيه من تحف وأواني.
وقالت إن المجتمع المدني وفي مقدمته"مجمع سجنان" الذي بعث عا م 2012 يضمّ مائة حرفية، قد ساعد النساء بتقديم المشورة وفي عمليات التسويق.
وتابعت زينب فرحات: "نساء سجنان يحتجن الدعم لتطوير أعمالهن وتعصير طرق الترويج والتسويق لضمان المزيد من إشعاعه على المستوى المحلي والعالمي، ولتظل منطقتنا رافدا للتواصل الثقافي بين الشعوب وعنوانا بارزا للمحافظة على جانب من التراث الإنساني يروي قصة عشق بين الإنسان وأرضه".