تحول معتقل "تزمامارت" السري السابق في المغرب من فضاء "ممقوت" و"سيء" خلال ما عرف بـ"سنوات الرصاص"، إلى مزارٍ يعكس حفظ ذاكرة عاشتها المملكة إنصافا للضحايا ومصالحة مع الماضي.
ويحرص "المجلس الوطني لحقوق الإنسان" (هيئة دستورية رسمية)، على الوقوف على أشغال ترميم معتقل تزمامارت، في إطار متابعة تنفيذ توصيات "هيئة الإنصاف والمصالحة" بخصوص حفظ الذاكرة وعدم التكرار.
وكان المغرب أحدث في مطلع الألفية الثالثة هيئة الإنصاف والمصالحة، باعتبارها مؤسسة للمصالحة الوطنية وتصفية ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، ومن بين ما جاء في توصياتها حفظ الذاكرة بهدف ضمان عدم تكرار ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
حتى لا يتكرر ما جرى
وخلال اجتماع لجنة تتبع تهيئة فضاء تزمامارت، أكدت رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أمينة بوعياش، الأسبوع الماضي، أن "هذه التجربة الاستثنائية وغير المسبوقة ستمكن من تحويل فضاء تزمامارت إلى فضاء للفرح والحياة بكل ديناميته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية، ليكون أول فضاء يخرج للوجود في مسار المصالحة وحفظ الذاكرة".
ووصلت نسبة الإنجاز في المشروع إلى 95 بالمئة، كما أعلنت بوعياش، مضيفة أن كلفته المالية بلغت أكثر من 18 مليون درهم مغربي.
ويوجد المعتقل السري وغير النظامي السابق، في قرية تزمامارت النائية التي تنتمي لجهة درعة تافيلالت جنوب شرق المغرب.
ويقول عضو اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة درعة تافيلالت (تابعة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان)، سعيد كريمي. "يساهم التحوّل الوظيفي للفضاء في جعل المغرب يتصالح فعليا مع تاريخه، وحاضره".
وتابع كريمي، في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن المشروع سيساهم أيضا في "خلق أجيال واعية، وقادرة على استيعاب الماضي بكل مآسيه وتجاوزاته، والتأسيس لواقع جديد، قائم على غرس قيم التسامح، والديمقراطية، والعدالة، حتى لا يتكرر ما جرى".
كما أن هذا المشروع يعد كذلك، "بلورة على أرض الواقع لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وانخراطا فعليا للمغرب في العدالة الانتقالية التي تروم تكريس مغرب حداثي وديمقراطي يعتز بماضيه وحاضره ومستقبله"، بحسب كريمي.
فلسفة جبر الضرر الجماعي
في إطار هذا الاعتزاز يبرز أيضا البعد التنموي للمنطقة والساكنة المحيطة بمركز اعتقال كان فضيعا فيما مضى، واستقبل منذ فتحه في صيف 1973 أفواجا من السجناء العسكريين والسياسيين.
يعتبر عضو "وحدة حفظ الذاكرة والنهوض بتاريخ المغرب في مختلف روافده" التابعة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، محمد سعدي، أن "ترميم مراكز الاعتقال السابقة وتحويلها لأماكن لحفظ الذاكرة ولفضاءات اجتماعية وثقافية لتنمية المناطق وتحسين مستوى عيش الساكنة المحيطة بها، يأتي في إطار استكمال تفعيل توصيات هيئة الانصاف والمصالحة، وتجسيدا لفلسفة جبر الضرر الجماعي".
وفي تصريحه لموقع "سكاي نيوز عربية"، يرى سعدي، وهو أيضا أستاذ حقوق الإنسان بجامعة محمد الأول بوجدة، أن هذه الخطوات تأتي "من منطلق استراتيجية مندمجة اعتمدها المجلس الوطني لحقوق الإنسان مع مختلف شركائه، وتهدف لحفظ الذاكرة بشكل ايجابي عبر إعادة ترتيب عناصرها وجعلها في خدمة التنمية والعدالة الاجتماعية".
ويتوقع أن تزمامارت "سيكون قريبا فضاء لحفظ ذاكرة الضحايا، كما ستستفيد المنطقة من مشاريع تنموية مندمجة مدرة للدخل؛ وهي خطوة تشكل جزءا هاما من مسار العدالة الانتقالية في علاقتها بحفظ الذاكرة وجبر الضرر الجماعي".
وأضاف أستاذ حقوق الإنسان، أن هذه الخطوة " تجربة طويلة النفس وتتطلب تضافر الجهود بين مختلف القطاعات المعنية لإنجاحها باعتبارها مدخلا هاما للانخراط الايجابي في عملية البناء الديمقراطي وترسيخ الثقة في دولة المؤسسات وسيادة القانون".
تراث من الماضي الأليم
تبدو هذه التجربة المغربية الجديدة، من جانبها الثقافي والرمزي "خطوة ايجابية جدا للانفتاح على شكل جديد من التراث ترميما وتثمينا، ونتمنى تنزيل وثائق إدارية عملية لتدبير جيد ومستدام لهذا الفضاء لكي لا يغدو فضاء مهجورا وينسى مع مرور الوقت"، بحسب الخبير في الآثار والتراث، منير أقصبي.
ويسجل أقصبي، في اتصاله بموقع "سكاي نيوز عربية"، أن "المغرب ألِفَ الاهتمام بما هو جميل ومضيء في تاريخه، وهي نظرة ضيقة ومتجاوزة لتراث الأسلاف".
وأوضح الخبير في الآثار والتراث، أن "أشكال التراث وتجلياته تطورت كثيرا في الألفية الثالثة، خصوصا بعدما صيغت نصوص قانونية مهمة صُنفت بموجبها أشكال من التراث غير المادي والتراث المغمور بالمياه والتراث الكولونيالي والتراث الصناعي والمنجمي والتراث السلبي والمناظر الثقافية".
وأشار أقصبي، إلى "تصنيف اليونسكو معتقل أوشفيست ببولونيا عام 2010 ضمن لائحة ما يعرف بالتراث السلبي، إذ لا يتعلق الأمر بحفظ مكونات الفضاء المادية فحسب، بل بالإبقاء على شواهد من الماضي الأليم وتثبيتها في الذاكرة الجمعية الوطنية من أجل أن تتفاداها الأجيال الحالية والمستقبلية".