في قرية "كولى شاخ" التابعة لبلدة شقلاوة التي تبعد مسافة ثلاثين كيلومتراً باتجاه الشمال عن مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، تنظم الخالة شيرين خوشناو تسعة وأربعين صحناً متناسقاً، هُم أعداد أبناءها وأحفادها الذين سيقضون صباح عيد الفطر السعيد هذا العام بصحبتها.
تقول خوشناو لـ"سكاي نيوز عربية" وهي تجهز "نانه جەژنی رەمەزانی" أو "مائدة عيد الفطر": "مائدة صباح اليوم الأول من العيد، التي يلتم حولها كل أبناء العائلة، هي جوهر العيد بالنسبة للأكراد، وهو تقليد قديم توارثناه من أباءنا وأجدادنا. فتلك المائدة تجمع المختلفين والمتخاصمين من أبناء العائلة الواحدة، تُصفى عليها القلوب، وتبدأ العائلة وكأنها ولدت من جديد، وهذه هي الفرحة الكُبرى بالنسبة لنا في أي عيد".
"مائدة عيد الفطر" التي تُعدها كُل العوائل الكُردية في صباح العيد، تتألف من اللحوم والأزر البلدي ونوع خاص من "مأكول المُشمش المجفف" والمكسرات المقلية. يطول الجلوس على المائدة صباحاً طوال ساعتين كاملتين، ليبدأ نصف أبناء العائلة بزيارة الجيران والأقارب وتهنئتهم بالعيد، بينما يستقبل البقية زوراهم، الذي عادة ما يجلسون على نفس المائدة المُعدة، ويتذوقون منها، تعبيراً عن المشاركة في الطعام والحياة الاجتماعية المشتركة.
كانت مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان ليلة العيد تبدو كخلية نخل، إذ كان مئات الآلاف من مواطنيها الأكراد يتجهزون للتبضع من أسواق المدينة، والمغادرة إلى القُرى والمصايف المحيطة بها، كما هو التقليد الدائم للسكان، فالعيد بالنسبة لهم مناسبة لمغادرة أجواء المدينة الصاخبة نحو القُرى الجبلية، التي ما تزال تحمل أجواء الربيع. تضاعف هذا السلوك خلال الفترة السابقة، بسبب انتشار وباء كورونا، إذ يتقصد السكان عيش مختلف احتفالاتهم المختلطة في الأرياف، تجنباً للاختلاط الزائد.
كان إعلان وزارة الأوقاف في حكومة الإقليم يوم الخميس كأول أيام عيد الفطر السعيد، توافقاً مع أغلب بُلدان العالم الإسلامي، أمراً ذا دلالة سياسية وثقافية عميقة. فالمسلمون الأكراد، في العراق وباقي بُلدان المنطقة، يتبعون المذهب السُني، وبذا يحتفلون بالأعياد الدينية بشكل متوافق مع باقي دول ومُجتمعات العالم الإسلامي. كانت هذه المسألة قد تحولت إلى حساسية خاصة في العراق طوال ثمانية عشر عاماً الماضية، إذ تصر بعض المراجع الدينية على ألا يحتفل العراقيون في نفس اليوم، لكن المسلمين السُنة في العراق، عرباً وأكراد، على الاحتفال سوية، رغماً عن كل الضغوط التي تُمارس عليهم. تكرس الأمر بعد هجرة قرابة مليون ونص من أبناء المناطق السُنية العراقية إلى إقليم كردستان، واستقرارهم المديد في مُدنه الرئيسية.
وفي حديث مع سكاي نيوز عربية حول هذه التقليد الكردي، يقول المُلا صبري دُزيي، الذي عمل كخطيب في مختلف بلدات وقُرى إقليم كردستان العراق لأكثر من ستة عقود: "في الأزمنة الماضية، كانت المائدة الأساسية تُعد في ساحات جوامع القُرى، فمع بدأ صلاة الفجر وخطبة العيد، تكون عائلات القرية قد بدأن إعداد المائدة في ساحة الجامع، وقد كان ذلك بمثابة طقس جماعية للتعبير عن الالتزام الجماعي بأوامر الله، والإفطار الجماعي مع بزوغ فجر اليوم الأول من شهر شوال".
يضيف المُلا دُزيي في حديثه: "كانت المائدة تعبيراً عن كسر الفوارق الاجتماعي والاقتصادية بين أبناء المنطقة الواحد. فأبناء العائلات الميسورة، خصوصاً من الاقطاعيين وأصحاب المناصب، كانوا حريصين على الجلوس في الأقسام التي كانت تعدها العائلات الأقل يُسراً، ويُظهرون اهتماماً وشُكراً لما أعدوه من مائدة، وهو أمر كان يزرع الوئام المتبادل فيما بينها". يضيف دُزيي: "لمرات لا تُعد، تحولت المائدة الجماعية في صباح العيد إلى مناسبة لعقد مصالحات اجتماعية بين أناس تشاركوا الخصام والثأر لسنوات وعقود. فرفض المشاركة في الوليمة المُشتركة كان يُعتبر خروجاً عن تقليد اجتماعي أساسي، ولأجله كان الكثير من المختلفين يُجبرون على الأكل من نفس الصحن المُشترك، حينما كان بقية الحاضرين يتقصون عدم ترك أماكن فارغة فيما بينهم ليجلس الطرفان متجاورين".
راهناً، تنتشر موائد الإفطار تلك في مختلف جوامع وساحات الأحياء في مدينة أربيل وغيرها من مُدن الإقليم، بالذات منها الأحياء القديمة، التي ما يزال سكانها يحافظون على ذلك التقليد، ويعدونه شيئاً من إرثهم الاجتماعي والروحي.
كانت حكومة إقليم كردستان قد أعلنت من قبل عن حظر شامل للسكان أثناء أيام العيد، لكنها تراجعت تحت ضغوط شعبية لمطالبتها بتحويل الأمر إلى حظر جزئي، يفرض على المجتمعين في الأماكن العامة التباعد ووضع الكمامات الواقية والالتزام بتجمعات صغيرة.