قال لي الكاتب الكبير الراحل وحيد حامد، هل تعرف أن بعض الكتاب يمارسون المهنة على طريقة (الفطاطري)؟
طلبت منه أن يزيدني من الشعر بيتاً، فأجابني: قطعة العجين الصغيرة من الممكن أن تتحول إلى فطيرة قطرها خمسة سنتيمتراً، وهي نفسها من الممكن على يد نفس (الفطاطري) أن يصبح قطرها 50 سنتيمتراً وأكثر!
هكذا بعض الأعمال الفنية، نرى الكاتب يملأ الزمن بأي مواقف من الممكن اختصارها؛ من أجل الوصول للرقم 30 كما تريد الفضائيات، عندما يرن مثلاً جرس الباب، يبدأ في استعراض أفراد الأسرة داخل حجراتهم قبل أن يشرع أحدهم في فتح الباب، ليستهلك عدداً من الدقائق، يملأ بها الفراغ الدرامي.
ومن هنا جاء ترحيبي بأن تقدم بعض المسلسلات في إطار 15 حلقة. وهكذا أنهى عرض (بين السماء والأرض) النصف الأول من رمضان، ليبدأ (كوفيد25) ليكمل النصف الثاني، وهو ما يفتح لنا الباب أمام أعمال فنية قادمة تتحرر من ضرورة الوصول للرقم 30.
في هذا المسلسل (بين السماء والأرض) تجد دائماً التناقض هو سيد الموقف، الدمعة والضحكة، الإيثار والأنانية، التسامح والانتقام، الموت والحياة.. كل هذه المعاني تتجسد في عدد من الساعات تعطل خلالها المصعد، فكان أمام كل منهم في هذا الزمن الفارق شيء واحد ممكن وهو أن يستعيد حياته، لنكتشف أنها في جانب منها تتقاطع مع عدد من الشخصيات داخل وخارج المصعد.
أحمد بدير أكبرهم سنا ومع اقتراب النهاية تنتهي أيضاً حياته، بينما نوران الممنوعة أساساً من الإنجاب حرصاً على حياتها تلد طفلاً ليظل العدد كما هو 11 إنساناً، دخلوا المصعد في البداية وخرجوا منه بعد إصلاحه، مشيرا إلى استمرار الحياة، رغم حتمية الموت.
المخرج محمد جمال العدل (ماندو) يضع على كادر البداية صوراً لكل من صلاح أبو سيف ونجيب محفوظ وعاطف الطيب ورضوان الكاشف ومحمد خان والسيد بدير وغيرهم من المبدعين الذين أراد المخرج أن يقول لهم جميعاً شكراً، سواء كان لهم علاقة بالفيلم الأصلي أم لا. وأضاف أيضاً أسم الموسيقار بليغ حمدي، لتصبح كل حلقة تحمل أسماً لأغنية لحنها بليغ، وأطلق على الحلقة الأخيرة عنوان (فات الميعاد) أغنيته الشهيرة لأم كلثوم.
التماهي مع الماضي ملمح واضح في المسلسل، على شرط أن يحمل رؤية عميقة أبعد من مجرد أن تصبح عنواناً للحلقة.
(بين السماء والأرض) أحد الأفلام التي لا تخلو منه قائمة الأفضل مصرياً وعربياً، رغم مضي أكثر من 60 عاماً على إنتاجه. القصة لنجيب محفوظ، شارك السيد بدير في كتابة الحوار، وصلاح أبوسيف السيناريو. الفكرة تحمل قدراً من المغامرة، فالدراما قائمة على الانتقال في الزمان والمكان، بينما الخط العام لتلك الفكرة قائم على تقييد الناس داخل مصعد ليضيق تماماً المكان، ويصبح الزمن الواقعي هو الزمن الدرامي.
شاهدنا العديد من التجارب المماثلة السابقة واللاحقة، لعل أشهرها تاريخيا الفيلم البريطاني (12 رجلاً غاضباً) إخراج سيدني لوميت نهاية الأربعينيات، والذي اقتنص جائزة الأوسكار.
الدراما التليفزيونية تضع المخرج في تحد أكبر، فزمن الفيلم عادة لا يتجاوز الساعتين، بينما المسلسل يربو عن ثمان ساعات. السيناريو الذي كتبه إسلام حافظ اتكأ على أن كل شخصية تستعيد حياتها، وأن نرى أيضاً علاقات سابقة بين الشخصيات مثل سوسن بدر الممثلة التي تعيش الإحساس بنهاية النجومية والبريق و(اللبيسة) نجلاء بدر والتي صارت نجمة تنافسها بل تسعي لكي تمحوها تماماً من الخريطة الفنية، ويتقاطع معهما محمود الليثي مطرب المهرجانات السابق الذي أصبح منشدا للأغاني الدينية، ومتطرف دينياً. كان زوجاً لنجلاء بدر قبل أن تدبر له مكيدة تلقي به في السجن.
شاهدنا المريض نفسياً محمد ثروت، وتلك هي ربما المرة الأولى التي يقدم فيها شخصية لها أبعاد درامية وليس مجرد مضحكاتي، بينما محمد لطفي في دور الضالع في الإجرام، وهاني سلامة المثقف الذي يسعي لكي تصل كلمته للناس بينما هناك من يتهمه بالإلحاد.
جاء في النهاية المشهد الذي يمس القلب لحارس العقار (بواب العمارة) محمود البزاوي الذي يقول بعد فتح المصعد وإنقاذ من فيه إنه مثل هؤلاء يعيش في نفس المساحة مع أسرته 10 سنوات، ولم ينقذه أحد، بينما هم لم يتحملوا البقاء مجرد ساعات.
لن تعثر في رسم الشخصيات داخل المصعد وبنسبة كبيرة إلا على كل ما هو متكرر ومحفوظ ومعلوم. الكاتب إسلام حافظ لم يضف بخياله الكثير. شاهدنا العديد من الشخصيات الأرشيفية.
المخرج (ماندو) مع المونتيرة رانيا المنتصر بالله منحا الصورة قدراً من التنوع والانتقال بين الشخصيات في تلك المساحة الضيقة، يحتاج إلى رهافة إبداعية. والكاميرا تُطل من أعلى أحياناً لتظهر ضعف الشخصيات أو وهي تقتنص لقطة لوجه أو حركة يد أو نظرة عين تقول الكثير وبلا ثرثرة، كما أنه حافظ على خط المقاومة الذي كان بين الحين والآخر يقاوم من أجل الحياة.
حكى لي المخرج الكبير الراحل صلاح أبوسيف أنه ذهب كعادته إلى دار العرض لكي يشاهد قبل 60 عاماً فيلمه مع الجمهور، وحرص على الجلوس في آخر صف ليتابع ردود الفعل، وقد لاحظ أن البعض يغادر القاعة قبل أن ينتهي العرض. كان مدركاً قطعاً أن هناك من سيرفض، إلا أن المفاجأة أن هناك من اندفع إليه غاضباً وأمسك عنقه وشد على (الكرافت)، وكاد أن يخنقه قائلاً: (كنت ها تخنقني)، واعتبرها صلاح أبوسيف أعظم شهادة للفيلم.
بات (بين السماء والأرض) مع مرور الزمن فيلماً جماهيرياً مع كثرة عرضه في القنوات الفضائية؛ لأنه حمل فكراً جديداً ومغايرا.
بذل المخرج الشاب محمد جمال العدل قطعاً جهداً لكسر الملل داخل المصعد، إلا أن هذا لا يعفيه من المسؤولية عن سيناريو معلب سابق التجهيز الدرامي.