من أقصى المغرب العربي، وتحديدا بلاد شنقيط (موريتانيا)، شق الحاج "البشير البُرتلي الولاتي" طريقه نحو أرض الحجاز، قاصدا أداء فريضة الحج، ولم يكن في مخيلته أن الرحلة التي دونتها أنامله وهو في طريقه، ستصبح بعد أكثر من 200 عام، محل اهتمام أكاديمي وإعلامي عالمي.
وبرغم العثور على العديد من رحلات الحج القديمة في دول المغرب العربي، فإن أهم ما يميز رحلة "البرتلي"، أنها أقدم رحلة حج موريتانية مدونة، عثر عليها أستاذ مشارك التاريخ الوسيط، الدكتور عمرو منير، ونشرتها دار "بريل" العالمية في لايدن بهولندا.
مصادفة
لم يكن خروج المخطوط للنور أمرا يسيرا، ومن ثم معرفة تفاصيل أقدم رحلة موريتانية مدونة إلى أرض الحجاز. وفي هذا الصدد يحكي منير، قصة العثور على المخطوط التي بدأت بمصادفة، وصولا بمحطات طويلة من البحث والتدقيق، انتهاءً بنشرها في واحدة من أعرق دور النشر العالمية.
ويعود الأكاديمي المصري بالذاكرة إلى عام 2009، عندما عثر على المخطوط بالمصادفة ضمن سجل فهرسة مجموعة مخطوطات، كان بعضها في الأصل ملكا لجده عبد السلام المعلم، الذي كان مهتما بجمع الكتب والمخطوطات، وتم إهداؤها لدار الكتب بالزقازيق بمحافظة الشرقية في مصر.
ويقول منير لموقع "سكاي نيوز عربية": "في البداية لم يكن الأمر واضحا، حيث كانت الرحلة منسوبة للمسمى (البيشي) في سجلات الدار، لكن بعد البحث والتقصي، اكتشفت أنه لا وجود لشخص بهذا الاسم؛ حيث لم يتمكن المفهرِس أو كاتب السجل من قراءة الاسم المكتوب بالخط المغربي فأثبته على أنه (البيشي)".
ويتابع: "هكذا تأكدت من حقيقة الرحلة بالرجوع إلى المصادر التي تحدثت عن صاحبها، وأنها رحلة الحاج "البشير البُرْتُلِي الولاتي" التي قام بها سنة 1789م إلى الحرمين الشريفين، وأنها أقدم رحلة ولاتية حجازية مدونة خرجت من بلاد شنقيط".
ويلفت إلى أن هذه الرحلة ظلت طي النسيان، لولا الإشارة التي أوردها مؤلف كتاب "فتح الشكور" عند ترجمته لصاحبها الحاج البشير البُرْتُلِي، لكان مصيرها الضياع إلى الأبد، "حيث أكد لنا ذلك أيضا بعض الإفادات باحتمال وجودها في إحدى مكتبات مدينة الزقازيق، أو مدينة طنطا بجمهورية مصر، من دون أن يتيسر الحصول عليها لأي من الباحثين من أجل التحقيق فيها ونشرها".
مخطوطتان جديدتان
لعبت الأقدار دورها في رحلة تحقيق مخطوطة البرلتلي، ويشير إلى ذلك منير بقوله: "عندما كنت أستعد لتبييض العمل وإخراجه، إذا بي أطَّلع فجأة على موضوع منشور بالعدد (79) من مجلة المقتبس الصادر مطلع سبتمبر من عام 1912م، يتحدث عن جهود أحمد زكي باشا وعن مكتبته المشهورة بـ"الزكية".
ويتابع: "كان هذا العدد يفيد بأن من ضمن مخطوطات المكتبة (الزكية) رحلة للشيخ محمد بشير البُرْتُلِي، يصف فيها الصحاري من بلاد أتوات إلى الحرمين في القرن الثاني عشر للهجرة، مما يعني أن هناك نسخة ثانية للمخطوط في مكتبة دار الكتب بالقاهرة، التي آلت إليها مخطوطات الزكية، فانطلقت في رحلة أخرى للبحث عن هذه النسخة، واهتديت إليها أخيرا، وحصلت على صورة منها بعد جهد مضن".
وبينما كان يضع منير اللمسات الأخيرة على الرحلة- عثر على نسخة موريتانية ضمن مخطوطات مدينة تيشيت التي قام بتصويرها مركز جمعة الماجد بدبي، وأصلها محفوظ بمكتبة محمد بن حمى الله بتيشيت في مالي.
وهنا يقول الأكاديمي المصري إن النسخة الموريتانية قد نالها ما نال النسخ الأخرى من الفقد، وزادت عليها بأنها كانت في حالة بالية أكثر، حيث لم يبق منها سوى ورقات معدودة من نهايتها، لم تسعف من حاول التعرف عليها إلا في أنها رحلة، فوضع لها عنوانا هو: "ورقات من رحلة"، وتأكدت من أنها رحلة البرتلي عندما قارنتها بالمخطوطتين الموجودتين لدي.
أهمية الرحلة
يرجع اهتمام أهل المغرب العربي بتدوين رحلاتهم الحجازية إلى القرن التاسع الميلادي، وامتدت حتى القرن الخامس عشر، حتى خفتت حركة التدوين بفعل الحروب الصليبية والهجمات الإيبيرية على سواحل بلاد المغرب.
لذا فإن رحلة الحاج "البشير البرتلي الولاتي" التي قام بها سنة 1789م إلى الحرمين الشريفين، تعد من بين تلك الرحلات التي جاءت في نهايات القرن الثامن عشر، في الفترة التي أعقبت ازدهار حركة التدوين، لكنها تحمل بين طياتها الكثير من الأسرار التي جعلتها من بين المخطوطات القديمة النادرة.
ويكشف منير أهمية الرحلة الحجازية للحاج البرتلي؛ إذ يقول: "رغم أن الرحلة تقوم على الإيجاز والاختصار؛ فإنها تكتسي أهمية بالغة بين مثيلاتها من رحلات المغاربة عموما والشناقطة خصوصا، فهي أقدم رحلة شنقيطية مدونة، كما أنها تختلف عن الرحلات المدونة الأخرى في الطريق الذي سلكته".
ويضيف محقق المخطوط النادر لموقع "سكاي نيوز عربية": "هذا طريق نفتقد - أو نكاد - أي رحلة حجازية مدونة مشابهة سلك صاحبها هذا الطريق، الذي تُجمع المصادر على أهميته، ويصف لنا صاحبها المدن والقرى العامرة، معددا مزاراتها وأضرحتها ورجالاتها الصالحين".
"كما تتفرد الرحلة بوصف صحراء تنزروفت الموحشة، وتقدم لنا مادة جغرافية جزيلة حول هذه المنطقة المجهولة التي لم يتطرق إليها الجغرافيون الأوائل إلا بشكل سطحي وعام، كما تعدد الرحلة منازل الطريق وصولا إلى الحرمين الشريفين وآبار المياه، عذبها ومالحها، واصفة جغرافيتها وتضاريسها".
ويلفت الأكاديمي المصري إلى أن الرحلة تزخر أيضا بالكثير من الإشارات التاريخية المتعلقة بمدينة ولاتة، وبلاد اتوات، وصحراء ليبيا، ومصر، والحجاز، ويحفل نصها ببعض الظواهر اللغوية الخاصة، وينبئ عن ثقافة صاحبها الدينية وسلوكه الصوفي المفعم بمحبة النبي محمد والصالحين.
محطات على الطريق
أماكن عديدة تأثر بها البشير البرتلي واستفاض في ذكرها، فم بينها حفرة الركب في عين صالح (الجزائر)، ومرزق في ليبيا، لكنه أولى اهتماما خاصا لبلاد الحرمين الشريفين، ومعالم مكة كدار المولد النبوي، واصفا الحالة التي كانت عليها إبان حجته؛ وأن فيها قبة مبنية، وفي وسطها أيضا قبة صغيرة عليها ثوبُ حسنٌ منكب عليها، والبيت كله فيه الطنافس (السجاد) وتهب من داخله الروائح الطيبة، التي لم شم مثلها قط".
وذكر أنه زار الحجر الذي سلم على النبي محمد، وأنه في السكة النافذة بين داره عليه الصلاة والسلام وبين المسجد الحرام في جدار مكتوب عليه: "هذا الحجر الذي سلَّم على سيد البشر الذي من أجله انشق القمر".
كما وصف قبر السيدة خديجة بنت خويلد، وذكر أن على قبرها قبة مبنية عجيبة، وأن معها في قبتها السلطان سيدي محمد اسرور سلطان مكة.
ويذكر خلال زيارته لقبور شهداء معركة أحد، جماعة منهم كانوا مع سيدنا حمزة في قبة. ووصف بعض مشاهد الحج، كما تأثر تأثرا خاصا بالمسجد النبوي، وانتابته حالة روحية شديدة عند "المواجهة الشريفة"، وهو يهم بالوداع.
خصال البلاد والعباد
في رحلته المدونة، أفاض البرتلي في ذكر خصال أهل فَزَّان وكرمهم واحتفائهم بالحجيج، وعاداتهم في استقبالهم، وخروج السلطان لاستقبال الأركاب، ووصف مراسم الاستقبال الذي خصهم بها.
وتحدث عن محبة أهل بنغازي الخاصة للحجاج الشناقطة، وحرصهم على مرافقتهم قائلا: "لأنهم قوم كرام يحبوننا غاية، ولنِعم الركب هم".
كما التقى بالعديد من العلماء، من أبرزهم الشيخ محمد بن عبد الرزاق الشهير بالمرتضى الزبيدي الحسيني، الذي تحصل على الإجازة في صحيح البخاري وكتاب "الشفا" للقاضي عياض من الشيخ منه، وقد كان البرتلي من آخر من أجازهم الزبيدي الذي توفي قبل رجوع البرتلي إلى بلده بقليل.
تتبع أثر البرتلي
في رحلة تحقيق المخطوط تتبع الدكتور منير أثر البرتلي، فيقول: "لقد سعيت لتتبع خطى البرتلي رحمه الله فزرت بلاد أتوات بالجزائر، وحرصت على زيارة حفرة الركب بعين صالح".
ويتابع: "وقد كفاني الإخوة الموريتانيون بكرمهم مؤونة السفر إلى ولاتة، بما وفروه لي من مصادر، وأعانوني به من أفكار، وذلّلوه لي من صعاب ذات صلة بلغة الرحلة وسياقها المحلي، مما ساعدني على خدمة الرحلة بصورة أفضل".
ويردف: "ثم إنني أحرمت بالحج، لأعيش الأجواء التي كان يعيشها البرتلي وهو حاج، وزرت ما هو باقٍ إلى اليوم من مزارات ذكرها في مكة والمدينة. أما رحلته في مصر، فتتبعت خطاه فيما ذكر مما لا يزال ماثلا من معالم، كجامع أحمد بن طولون، والمزارات والمساجد التي زارها".
احتضان "بريل" للبرتلي
ويصف منير احتضان دار بريل كواحدة من أهم وأعرق مؤسسات النشر العلمية في أوروبا للنص العربي "رحلة البرتلي" بأنه اعتراف بقيمة الإنتاج المعرفي العربي، كما يرى أن كتاب البرتلي يشق الطريق أمام جيل من المحققين والباحثين ويدعوهم لدعم وتطوير أدواتهم البحثية، والثقة في ذاتهم، وتقدير قيمة وأهمية العمل الجماعي في إطار من التسامح والتفاهم الإنساني.
واقع مأزوم
ويعتبر منير التراث "كائن حي نتنفسه ونعيشه، ويؤثر فينا كما نؤثر فيه، وعلينا أن نبذل جهدا لا ينقطع لفهمه"، لافتا إلى أن ما يقوم به، ويقوم به غيره من المولعين بالتراث، هو "محاولة وصل ما انقطع؛ لأنه منذ القطيعة بيننا وبين التراث أصبحنا نعيش في عالمين لا واصل بينهما، ومحاولة تجسير الفجوة بين العالمين جهد منير لحاضرنا ومستقبلنا".
ويختتم الأكاديمي المصري حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية" بالإشارة إلى أن تراثنا العربي، هو "جزء من واقع ثقافتنا العربية، وهو واقع مأزوم".
ويقول بشيء من الأسى: "يتوارى الاهتمام بالتراث لصالح الأعمال الأدبية الأخرى وغياب تام لجوائز عربية كبرى لتحقيق ونشر التراث، ومن الضروري الاعتراف بالحاجة لمشروعات ثقافية كبرى وتخصيص جائزة لتحقيق كتب التراث العلمي العربي وتحقيق التراث الشعبي والسير الشعبية العربية، التي عانت طويلا من الإهمال والتهميش".