لا أرى نفسي واحداً من جمهور عمرو محمود ياسين، وكنت أنظر إليه، سواء كممثل وكمؤلف، بوصفه نتاج جائحة "التوريث" التي ضربت مصر على الصعيدين السياسي والفني.
وكثيراً ما كنت أضع له العذر في امتهانه الفن كابن لعائلة فنية، عميدها النجم الكبير محمود ياسين ووالدته الفنانة شهيرة، وشقيقته الفنانة الشابة رانيا محمود ياسين، زوجة الفنان محمد رياض، وأهمس لنفسي: "وما الذي يمنعه، وله في أبناء الفنانين عادل إمام ومحمود عبد العزيز وسمير غانم وفاروق الفيشاوي وصلاح السعدني ومصطفى متولي وفاروق فلوكس. وغيرهم من الفنانين والمخرجين والمؤلفين، قدوة حسنة؟".
غير أنني ضبطت نفسي وأنا أتابعه في الفترة الأخيرة ككاتب لعدد من الأعمال الدرامية مثل "قسمتي ونصيبك"، الذي قُدم في 3 أجزاء، و"نحب تاني ليه" الذي جمعه وياسمين عبد العزيز، وأعجبت بجرأته؛ عندما أعلن عن تصديه مع الشاعر والكاتب أيمن بهجت لكتابة الجزء السادس من المسلسل الأيقونة "ليالي الحلمية"، ولم يُلق بالاً للهجوم الكبير والسخرية اللاذعة التي طالته لأنه اقترب من إبداع قيمة وقامة مثل الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة.
وبمزيج من القلق والترقب رحت أتابع مسلسل "اللي مالوش كبير"، تأليفه وإخراج مصطفى فكري، الذي يُشكل معه دويتو (ثنائياً ناجحاً)، ورغم أنها ليست المرة الأولى، التي يجتمع فيها الزوجان ياسمين عبد العزيز وأحمد العوضي في بطولة مسلسل درامي؛ إذ فعلاها من قبل في مسلسل لآخر نفس (2019)، إخراج حسام علي، إلا أن إحساساً خفياً سيطر علي بأن "اللي مالوش كبير" ليس سوى استثماراً للثنائي والضجة التي تُثار بين الحين والآخر حولهما، وأيضاً نجاح مسلسل "ونحب تاني ليه"، الذي قامت ياسمين عبد العزيز ببطولته، في رمضان الماضي، مع نفس المؤلف والمخرج .
لا أنكر أنني انجذبت إلى عنوان "اللي مالوش كبير"، لمردوده الشعبي الكبير، واتساع مدلوله ليشمل طبقات اجتماعية عدة تبحث عن "الكبير" بمعنى الظهر والسند والدعم، بينما في المجتمع من ليس في حاجة مُطلقاً إلى القوة والجاه والنفوذ، لأنه يملكهم بالفعل، وهو ما أتاح للكاتب حرية الانتقال بين أنماط شعبية وأرستقراطية كثيرة، وصنوف كثيرة من البشر، تعكس حال المجتمع، مع إفساح المجال لصدام الطبقات، وتبرير وجود مشاهد الإثارة "الأكشن".
إذا نظرنا لمسلسل "اللي مالوش كبير" بمقاييس النظريات السياسية، سُندرك أنه يرصد انقسام مجتمع إلى طبقات متناحرة، إحداها مُستغلة بكسر الغين، والأخرى مُستغلة بفتح الغين، تقاوم كل طبقة من أجل تحسين وضعها الاجتماعي والاقتصادي، بينما يبرز عامل الفقر، كمؤثر محوري في الصراع، جنباً إلى جنب مع تدهور القيم والأخلاق، في المجتمع، وتفشي الانتهازية والوصولية والنفاق، التي كانت سبباً في تعجيل عائلة عبده زكريا المصري (فتوح أحمد)، بتزويج ابنتها غزل (ياسمين عبد العزيز)، من عابد تيمور (خالد الصاوي)، رجل الأعمال، فاحش الثراء، في "صفقة" تغاضت فيها العائلة، عن فارق السن بينهما، و"ساديته" طمعاً في الاستفادة من هيبته ونفوذه في القفز بها، في حراك ملحوظ من الطبقة الشعبية إلى الطبقة التي يكن لها المجتمع كل الاحترام، لكن الزوجة الشابة تضيق بأمرها وحياتها، وتجد في الشاب سيف الخديوي (أحمد العوضي) ضالتها وخلاصها، رغم أنه "بلطجي"!
فرصة ثمينة لاستعراض نماذج شائعة من النفس البشرية، طفت على سطح المجتمع؛ كالانتهازي والوصولي والجشع والمنافق والاتكالي، ومن يعتنق مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، حسب النظرية "الميكيافيلية" الشهيرة، لكن اللافت أن الكاتب لم يعثر على شخصية سوية يمكن الاعتداد بها، بينما ترك نفسه لغواية العنف ضد المرأة (لكمات رجل الأعمال لزوجته، وضرب رأسها أكثر من مرة في الجدار)، وكأنه يُكرسه، بدلاً من أن يناهضه، ويستنكره.
"اللي مالوش كبير" كُتب بحرفية ملحوظة، ليُقدم وجبة دسمة من الدراما الاجتماعية، التي تجمع بين التشويق والإثارة والحركة والرومانسية، وتحليل الوضع الاجتماعي والسياسي الراهن، بشكل غير مباشر، وهو ما كان سبباً في الالتفاف الجماهيري غير المتوقع، حول المسلسل والثناء الذي طال الجميع، ابتداء من المخرج مصطفى فكري، مروراً بالمؤلف عمرو محمود ياسين، وصولاً إلى طاقم الممثلين، الذي فاجأنا بأداء مُغاير مثل أحمد العوضي وياسمين عبدالعزيز وخالد الصاوي وخالد سرحان ودينا فؤاد، التي جسدت باقتدار شخصية "قدرية" التي تلجأ إلى السحر والدجل والشعوذة، لاستعادة زوجها .