يعد عسل النحل أقدم مُحلى عرفه الإنسان في تاريخه؛ وقد استدل عليه العلماء من المنحوتات الصخرية التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، من قارات مختلفة، وتشير تقديرات متباينة إلى تاريخ استخدامه الذي يرجع إلى ما بين 8 آلاف إلى 40 ألف عام.
ورغم وجود أدلة أثرية تشير إلى تربية المصريين القدماء النحل منذ 2600 عام قبل ميلاد السيد المسيح، فإنه لم توجد أدلة أثرية مباشرة على استخدامه في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أو ما تعرف بـ"إفريقيا السوداء".
لكن دراسة حديثة نشرت منذ أيام في دورية "نيتشر"، غيرت الصورة بشكل جذري، بعدما أصبح لدى علماء آثار من جامعة "غوته" الألمانية أدلة قاطعة تثبت أقدم تاريخ معروف حتى الآن لاستخدام العسل في إفريقيا السمراء، بعد تحليل شظايا خزفية تعود لوعاء عمره 3500 عام.
وأجرى علماء الآثار من جامعة "غوته" تحليلا لبقايا الطعام الكيميائية العالقة بشظايا الوعاء، بالتعاون مع كيميائيين من جامعة "بريستول" البريطانية.
وتعود شظايا الوعاء الخزفي إلى حضارة "نوك" التي ظهرت في نيجيريا حوالي 1500 سنة قبل الميلاد، وتشتهر هذه الحضارة بمنحوتات التراكوتا (تماثيل الطين المحروق) بالحجم الطبيعي.
وتمثل حضارة نوك أقدم فن تصويري في إفريقيا السوداء، وحتى سنوات قليلة مضت، لم يكن معروفا تماما السياق الاجتماعي الذي تم فيه إنشاء هذه المنحوتات.
رحلة البحث
في مشروع ممول من مؤسسة الأبحاث الألمانية، أمضى علماء "غوته" 12 عاما في دراسة ثقافة نوك بجميع جوانبها الأثرية، بالإضافة إلى طريقة الاستيطان، فيما كان التسلسل الزمني وأهمية الطين، والاقتصاد والتغذية محور البحث.
هل كان لدى أهل ثقافة نوك حيوانات أليفة أم كانوا صيادين؟ عادة ما يستخدم علماء الآثار عظام الحيوانات من الحفريات لتوضيح هذا السؤال. ولكن ماذا لو كانت التربة شديدة الحموضة بحيث لا يمكن الحفاظ على العظام، التي تتحلل، كما هو الحال في منطقة نوك؟.
يفتح التحقيق في بقايا الطعام الجزيئية في الخزف إمكانيات جديدة، مفادها أنه عند معالجة المنتجات النباتية والحيوانية في أواني فخارية، يتم إطلاق مركبات كيميائية مستقرة، وخاصة الأحماض الدهنية (الدهون)، التي يمكن أن تظل في مسام جدار الوعاء الدموي لآلاف السنين، ويمكن اكتشافها بمساعدة "كروماتوغرافيا" الغاز.
ويرجح العلماء أن أهل حضارة نوك فصلوا العسل الموجود في الأواني الفخارية عن أقراص العسل الشمعية عن طريق التسخين، وهناك احتمال آخر يشير إلى أن الأواني الفخارية كانت تستخدم كخلايا نحل، مثلما لا يزال يُمارس في المجتمعات الإفريقية التقليدية اليوم.
آفاق جديدة
"لقد بدأنا هذه الدراسة مع زملائنا من بريستول لأننا أردنا معرفة ما إذا كان شعب نوك لديه حيوانات أليفة"، هكذا أوضح البروفيسور بيتر بريونيغ من جامعة غوته، الذي يرأس مشروع نوك الأثري.
ويتابع بريونيغ: "وجود هذا العسل في قائمة طعامهم اليومية كان أمرا غير متوقع تماما بالنسبة لنا، وهو فريد حتى الآن في عصور ما قبل التاريخ في إفريقيا".
وبدورها، تقول الدكتور جولي دن من جامعة بريستول، وهي المؤلف الأول للدراسة: "هذا مثال رائع على كيف أن المعلومات الجزيئية الحيوية المأخوذة من قطع فخار ما قبل التاريخ، جنبا إلى جنب مع البيانات الإثنوغرافية، نجحت في توفير رؤى حول استخدام العسل منذ 3500 عام".
من جانبه، يشير مدير معهد الكيمياء العضوية بجامعة بريستول، المؤلف المشارك بالدراسة، البروفيسور ريتشارد إيفرشيد، إلى أن العلاقة الخاصة بين البشر ونحل العسل "كانت معروفة بالفعل في العصور القديمة، لكن اكتشاف بقايا شمع العسل في خزف حضارة نوك يتيح رؤية خاصة جدا لهذه العلاقة، لأن جميع المصادر الأخرى مفقودة هناك".
كما تقول المسؤولة عن علم الآثار في مشروع نوك بجامعة غوته، البروفيسورة كاتارينا نيومان: "تعكس بقايا النباتات والحيوانات من الحفريات الأثرية جزءا صغيرا مما أكله الناس في عصور ما قبل التاريخ، فالمخلفات الكيميائية للمكونات التي كانت غير مرئية سابقًا في النظام الغذائي لعصور ما قبل التاريخ، أصبحت مرئية اليوم".
وتختتم حديثها بالقول: "اكتشاف أول دليل مباشر على شمع العسل يفتح آفاقا رائعة لعلم الآثار في إفريقيا، لرسم صورة أكثر واقعية للحياة اليومية والنظام الغذائي لأناس ما قبل التاريخ، فنحن نفترض أن استخدام العسل في إفريقيا له تقليد طويل جدا، يبلغ عمره من عمر أقدم فخار موجود في القارة، المقدر بحوالي 11000 سنة".