ربما يرى البعض، وله كل الحق، أن الوقت مازال مبكراً للحكم بشكل نهائي على الأعمال الدرامية الرمضانية، لكن الأمر المؤكد أن ثمة إجماعاً على أن مسلسل «القاهرة - كابول»، حجز لنفسه، وبشكل مُبكر للغاية، مكاناً، ليس فقط على قمة السباق الرمضاني، وإنما في عقول وقلوب الجمهور، الذي استشعر أنه بصدد تجربة مُغايرة تناقشه لكنها لا تُصادر رأيه، تستهدف تغييره من دون الاستهانة بوعيه.
منذ الوهلة الأولى تستحوذ تجربة «القاهرة / كابول»، على الاهتمام والإعجاب؛ بعد ما تخلص الكاتب عبدالرحيم كمال، والمخرج حُسام علي، من «الإرث» المُتعارف عليه، في دراما العصف الذهنيBrain Storming ، التي اصطلح على تسميتها «غسيل المخ»؛ فلا مكان للخطاب المباشر والنبرة الزاعقة أو التلقين المُتعمد، بل بساطة، وسلاسة في الطرح واختيار شخصيات جاذبة من لحم ودم، وطريقة سرد شيقة، تنسجم وخلفية الجمهور المُستهدف بالرسالة ولا تتعالى على وعيه، ما جعل العمل يبلغ مُبتغاه ويُحقق هدفه، رغم الصعوبة المُفرطة، التي تكتنف أية محاولة فنية لتناول ظاهرة الإرهاب باسم الدين.
يتحدث عبد الرحيم كمال عن شخصيات نعرفها، أو قريبة من محيطنا؛ عاشوا طفولتهم في حي السيدة زينب الشعبي، وحلقوا بأجنحة الخيال فأقسموا وهم «تحت البطانية» أن يظلوا أصدقاء، وأن يحكموا العالم؛ فأقسم «طارق» (فتحي عبد الوهاب) بحياة الشهرة، والثراء، و«رمزي» (طارق لطفي) بالمصحف، والسيف، و«عادل» (خالد الصاوي) بالحق والعدل، ورابعهم «خالد» (أحمد رزق)، بحياة السينما، فكان طبيعياً، بعد ما فرقتهم السُبل، أن يُصبح الأول إعلامياً ذائع الصيت، والثاني قيادياً كبيراً في جماعات الإسلام السياسي، والثالث مسؤولاً في الأمن الوطني، والرابع مخرجاً، وأن يجتمعوا، في لقاء أقرب إلى المواجهة العاصفة، شهد صداماً فكرياً، بين الضابط «عادل» والإرهابي «رمزي»، كما برهن على تفاهة وخواء، الإعلامي «طارق»، وانتهى باغتيال المخرج «خالد»، وكان «عادل» هو المستهدف بعملية الاغتيال!
بين انتقال أخاذ بين الحاضر والماضي، وفي مزج رائع، بين الطرح الديني والسياسي والاجتماعي، وموقف الإسلام السياسي تجاه الفن، والقوى الناعمة، وتوظيف دقيق للوثائق التاريخية النادرة، يأخذك المسلسل إلى لحظة ميلاد «رمزي»، مع إعلان جمال عبد الناصر، تنحيه عن رئاسة الجمهورية، واختيار والده اسم «رمزي»، تيمناً بالممثل المحبوب أحمد رمزي، ويالها من مفارقة مثيرة. كما يُذكرك باغتيال الشيخ الذهبي بإيدي متطرفين، واغتيال السادات بأيدي المتأسلمين، وتنامي ظاهرة الإسلام السياسي، وكيف باع «رمزي» نفسه للشيطان، في السراديب السرية، والعوالم التحتية، مقابل الحصول على لقب «الخليفة»؛ كونه يُدرك أن للولاء ثمناً وللطموح ثمناً!
أجواء عاصفة خيم عليها التوتر، لكن شيئاً في «القاهرة / كابول»، لا يحول بينك والتوحد مع أبطاله، والتأسي على حال بعض شخوصه؛ فالإرهابي لم يولد كذلك، بل كان شاعراً خجولاً، أحب «منال» (حنان مطاوع)، ابنة خاله «حسن» (نبيل الحلفاوي)، لكنه وقع في طفولته ضحية من أفسد عقله و«غسل مخه» وأدخل في روعه أن الاستماع لأم كلثوم «حرام»، والصلاة خلف أمه وأبيه «غير شرعية»، وأن عليه اعتزال «المجتمع الكافر». بينما تجسدت مأساة الإعلامي «طارق»، الذي استلهم كاتب المسلسل شخصيته من إعلامي شهير في تفاهته وسطحيته وانتهازيته والزيف الإعلامي الذي يُقدمه، والمخرج «خالد»، في فيلمه الممنوع من العرض، في وطنه، وضابط الأمن الوطني في انشغاله بعمله عن الاهتمام بأهل بيته.
أسلوب سرد شائق، وطريقة بناء ممتعة، صور لنا القضية الشائكة وكأنها «حدوتة» مسلية؛ وهو ما ظهر بوضوح في مشهد اجتماع الأصدقاء الأربعة، لأول وآخر مرة، والحيوية، التي اتسم بها الحوار المتبادل بين «رمزي»، المتطرف، و«عادل»، ضابط الأمن الوطني، حتى بدا وكأنها «مناظرة»؛ بفضل حركة الكاميرا الرصينة، والقطع الذكي، البعيد عن الخشونة؛ فالتناول الدرامي «الإنساني»، للكاتب عبد الرحيم كمال، والمزح المُقنن بين الواقع الآني وخيال الكاتب، جاء مُغايراً لكل ما ُقدم من قبل، في ما يتعلق بتناول ظاهرة الإرهاب الديني، أو الإسلام السياسي، على الشاشة، وفضح رموزها، ممن باعوا أنفسهم للشيطان.
وبدوره أبدع المخرج حسام علي، في تقديم صياغة بصرية، كشفت عن موهبة أصيلة، وحنكة واضحة، في الاستعانة بالوثائق الفيلمية، التي استعان بها في مراحل تاريخية عدة، وأضفت على العمل مصداقية، وواقعية، فضلاً عن الشاعرية، والبساطة، من دون سطحية، أو خطابة تُفسد العمل، وتُسقطه في فخ التوجيه المباشر أو الدعاية الجوفاء، الأمر الذي يُنبيء بأنه سيكون له شأن عظيم في المقبل من الأيام؛ خصوصاً أنه أظهر قدرة رائعة على اختيار، وقيادة، ممثليه، وتوظيف كل ممثل في الدور المناسب؛ بداية من اختيار طارق لطفي لتجسيد شخصية «رمزي»، المُثيرة للجدل، التي توحي وكأنها «رمز» لشيوخ الإرهاب قاطبة.
ثم تندفع، في لحظة، للتعاطف معه، كشاعر، وعاشق ولهان، تتنازعه مشاعر عدة، بينما يهيأ لك أن فتحي عبد الوهاب تقمص شخصية «طارق كساب»، بعد ما استدعى شخصية الإعلامي السابق بقناة «الجزيرة»؛ فالتطابق بين الشخصية المكتوبة على الورق، والإعلامي الشهير، كبير بدرجة مُذهلة؛ سواء على صعيد المقابلات مع قيادات بارزة في تنظيم القاعدة، أو الاجراءات الأمنية، التي سبقت المقابلات ( تهريب معدات التصوير واستخدام نفس الحقائب لتهريب الأموال للجماعة للإنفاق على العمليات الإرهابية) أو ما تعلق بالشكل ( النظارة الطبية، الإيماءات الحركية، طريقة التقديم) فضلاً عن التقارب الكبير بين طبيعة البرنامج، الذي كان يقدمه «الإعلامي»، على شاشة «الجزيرة»، وبرنامج «صانع الحدث»، الذي قدمه «كساب»، عبر قناة «الصحراء»، قبل أن يصل التطابق إلى ذروته في الحوار الذي دار بين «كساب» و«رمزي»، وانتهى بقول الأخير : ابقى اكتب في مذكراتك إنك شربت سيجارة مع الخليفة، وما ذكره «الإعلامي» في كتاب له، حول السيجارة التي تعاطاها، في حضرة رمزي بن الشيبة، رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة، وخالد شيخ محمد، العقل المدبر لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وتأكيده أنها أهم سيجارة دخنها على الإطلاق!
عندما يناقش عملاً فنياً كتاب «الملل والنحل»، والفرق الناجية، في الإسلام، وتمويل أميركا لجماعات الإسلام السياسي، والثقة المتبادلة بينهم، والهزيمة، التي أمر رئيس تحرير جريدة شهيرة بأن تتحول إلى «نكسة»، و«الحصاد الدامي للإرهاب»، وعلاقته والإسلام السياسي، وأهمية اللغة العربية، وخسة وانحطاط قيادات الجماعات المتطرفة («رمزي» يقوم بتصفية شقيق زوجته لأنه رفض مبايعته كخليفة للمسلمين وأميرًا للمؤمنين)، وحلم الخليفة بأن يحكم العالم من البيت الأبيض، ومكة مقراً للعرش، بينما تتحول مصر وسوريا والعراق إلى ولايات تابعة، والنظرة الدونية للمرأة ( النساء خُلقن للجنس بينما خُلق الرجال للجهاد)، ثم يحتل صدارة السباق الدرامي الرمضاني، لموسم 2021، كما يحظى باهتمام جماهيري، وترحيب نقدي؛ فالأمر المؤكد أنه عمل جدير بالمتابعة، والحفاوة، ويستحق تهنئة عناصره الفنية، وليس نجومه فقط؛ وتصبح الإشادة واجبة لمصممة الملابس ليلى ماجد، مهندس الديكور محمد أمين، واضع الموسيقى التصويرية خالد داغر، وفنان المونتاج أحمد الطرابيلي، ومدير التصوير كريم أشرف وصاحب القصة والسيناريو والحوار عبد الرحيم كمال والمخرج الواعد حسام علي.