يضع الفنانون التشكيليون في ليبيا أياديهم على قلوبهم خوفا من فقدان أكبر مقر للفن التشكيلي في ليبيا، بعد هدم آخر صرح للسينما قبل يومين، وهو دار الرشيد، في هجمة واسعة على الثقافة يراها الفنانون لا تقل عن أبشع الهجمات الإرهابية التي اجتاحت ليبيا في السنين العشرة الأخيرة.
وسينما الرشيد واحدة من أقدم السينمات في ليبيا منذ العهد الملكي؛ ولذا فهي أثر فني قائم بذاته، غير أنه تعرض للإهمال قبل إطلاق الرصاصة الأخيرة عليها لتصبح ذكرى من الماضي.
وعمَّت الحيرة القطاع الثقافي حول سبب الهدم بدلا من الترميم وإعادة التأهيل، فقالت مصادر في طرابلس لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن قرار الهدم غير معلوم وغير مبرر، وكان من الأولى صيانة السينما وإعادتها للعمل، وليس التخلص من مبنى تاريخي وثقافي كبير.
إنه لأمر جلل، فليبيا الآن لا يوجد بها أي دار سينما- بحسب ذات المصادر- وأخر سينما كانت تعمل هي سينما "الفيل هاوس" التي توقفت عن العمل في عام 2012 بسبب الاضطرابات الأمنية المتلاحقة، وآخر فيلم تم عرضه هو فيلم "إكس لارج" للنجم المصري أحمد حلمي.
لا سينما ولا مسارح
المؤلف والمخرج الليبي، عادل الحاسي، يعتبر أن إغلاق السينما ماهو إلا نوع من أنواع التعتيم الإعلامي؛ لأن السينما هي ركناً أساسياً من الحضارة والفكر، ولها دور مهم في عكس روح العصر، وإدانة التخلف، وفتح عيون المشاهد ليرى في الصورة المرئية واقعه، وظروفه، وحقيقته.
وأضاف الحاسي، لموقع "سكاي نيوز عربية": "نحن الآن لا نمتلك لا دور عرض سينما ولا مسارح! فكيف يمكن أن تدور العجلة الفنية إذ هي فاقدة لأركانها الأساسية؟ كيف لها أن تدور إذ هي تفتقر للوسائل الإعلامية التي تُسلّط الضوء على قضايا المجتمع، وتنقل صوته بموضوعية أكبر من وسائل الإعلام المقيَّدة بسياسات وأنظمة صارمة؟".
ثورة ثقافية" قبل الطوفان
أما الممثل والمخرج الليبي، أحمد إبراهيم، فكان أكثر تحديدا في الإشارة عن المسئول عن هذا الهدف، ففي رأيه إن مؤسسات ودور الثقافة "مستهدفة من قبل الإسلامويين منذ فترة؛ فهم يحرقون الكتب، ويشوهون الآثار ويبيعون القطع الأثرية خارج البلد، ويعتدون على المقرات ويشوهون المبدعين"، معتبرا أن التقديم السياسي الوليد يحتاج إلى "ثورة ثقافية عارمة تكتسح كل مالا يصلح للبقاء".
وأضاف إبراهيم، لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن ذلك يؤثر على عملية الإنتاج لأنها عملية معقدة جدا، وتأتي على حساب المنتج دائما، فالبعض يتحصل على تمويل خارجي، وفي الداخل إما عن طريق تلميع طرف على حساب آخر، أو عن طريق أكشاك الإنتاج المتمثله في القنوات التلفزيونية المحلية الخاصة.
ومتحسرا يقول: "أعمالنا تبدأ بحلم كبير يتقزم أمام صعوبات التنفيذ يوما بعد يوم، فتكون عملية الولادة عسيرة والجنين يتشوه ولا يحقق أهدافه المنشودة، رغم وجود صناع دراما متمكنين".
"70 سنة سينما"
مر تاريخ السينما في ليبيا بمراحل مختلفة، ففي ديسمبر 1951 استقلت ليبيا عن إيطاليا، ومع ذلك ظل سوق العروض السينمائية فيها تابعا لإيطاليا، ففي كل عام دور العرض التي بلغ عددها حوالي 30 دارا، تعرض حوالي 50 فيلما مصريا و40 فيلما إيطاليا و10 أفلام أميركية أو أكثر، بخلاف أفلام من دول أخرى غربية، والإيطالية تُعرض بلغتها دون ترجمة عربية، وفي دور عرض مخصصة للأجانب فقط، بل فرضوا على جميع دور العرض أن تعرض أفلاما إيطاليا كل يوم أحد.
ويعد هذا من بقايا ما يمكن وصفه بـ"الامتيازات الأجنبية" التي بقيت للاحتلال وذيوله رغم الاستقلال، ففي سنة 1966 مثلا كان في طرابلس العاصمة 13 دارا للعرض، 9 منها للأجانب و 4 فقط للمواطنين.
رصاص "الإرهاب" يقترب من "دار الفنون"
استهداف الفن والثقافة هذه المرة يتم بشكل آخر، فإن كان في سنوات الاحتلال وما بعدها بفترة السينما تخدم ثقافة المحتل أولا، فإنه في السنين الأخيرة باتت الجماعات المتشددة معول الهدم للثقافة الليبية بهدم مؤسسات الثقافة التي صارت بيد الليبيين.
فمثلا الشهر الماضي، تسببت ما تسمى بـ"جمعية الدعوة الإسلامية"، في نشر الخوف داخل الوسط الثقافي، لا سيما قطاع الفن التشكيلي، بعد أن استهدفت واحدة من أهم المؤسسات الثقافية التي تأسست سنة 1993، وهي مقر "دار الفنون" الذي احتضن العديد من الفعاليات الفنية والمعارض لرواد الفن التشكيلي في البلاد، بالإضافة إلى أنشطة ثقافية أخرى من أمسيات شعرية وندوات فكرية، فقد طالبت الجمعية بهدمه دون مبرر.
وأطلق نشطاء ومثقفون وسما على مواقع التواصل الاجتماعي عنوانه "أنقذوا دار الفنون"، في محاولة للحفاظ على الدار من تهديدات الإرهاب.
الكاتب والروائي الليبي منصور بوشناف، وصف قرار التهديد بهدم دار الفنون بـ"الطوفان القبلي والتصحر الذي يكتسح كل ماله علاقة بالثقافة والفنون الليبية".
وبقلق شديد قال بوشناف لموقع "سكاي نيوز عربية" إن هذا القرار "ينذر بالدمار، ويبشر بعصر ثقافة القتل وإلقاء الجثث في المكبات وحرق الكتب والآلات الموسيقية".