بينما كان الأطفال يسلكون طريقهم نحو المدرسة، في إحدى قرى جبال الأطلس الصغير، جنوبي المغرب، حاملين حقائبهم الصغيرة، كانت الطفلة فاطمة تراقبهم من بعيد وهي مثقلة بحزمة كبيرة من الحطب، وتتحسر على عدم قدرتها على الظفر بفرصة للتعلم بسبب ظروفها الاجتماعية.
وتقول فاطمة لعظام لموقع "سكاي نيوز عربية" وهي تستحضر ذلك المشهد الذي لم يفارقها قط: " كلما عاد بي الزمن للوراء وتذكرت أقراني من الأطفال بلباسهم المدرسي، والذي طالما تمنيت ارتداءه، ينتابني ذات الإحساس من جديد، إنه الإحساس بالظلم والحرمان، وتتملكني غصة موجعة في القلب، لا يمكن أن يشعر بها سوى من عاش نفس الظروف".
بعد مرور سنوات عن ذلك المشهد، ومواقف أخرى مشابهة لا تقل قساوة على فاطمة، تمكنت بعد جهد ومثابرة من تحقيق حلمها وتصبح قادرة على الكتابة والقراءة، بل وجدت نفسها تقف في يوم من الأيام أمام العاهل المغربي، لتحصل على جائزة نظير تفوقها في البرنامج الوطني المخصص لمحاربة الأمية، وهي تستعد اليوم لإصدار أول رواية لها تحمل عنوان "معاناتي مع أميتي".
طفولة قاسية
عانت فاطمة في طفولتها من التفكك الأسري، وعاشت وهي بعيدة عن والديها ظروفا اجتماعية قاسية منعتها من ارتياد المدرسة، لتكبر وهي تحمل في قلبها غصة الحرمان من التعلم.
وتحكي السيدة الأمازيغية، كيف كانت تقوم بأشغال منزلية تفوق سنها بكثير في الوقت الذي كان فيه أقرانها من الأطفال يتلقون تعليمهم في المدرسة، مكانهم الطبيعي، لتعلم القراءة والكتابة، ورسم ملامح مستقبلهم المشرق.
وقد شكل زواج فاطمة، فرصة لها للانتقال إلى المدينة، والهرب من الظروف الاجتماعية الصعبة التي كانت تعيشها في قريتها، ومنحتها تلك الخطوة بصيص أمل لتحقيق حلم التعلم الذي ظل يرادوها، قبل أن تصطدم بواقع اخر، ومسؤولية وأعباء الحياة الزوجية التي حملتها على عاتقها رغم صغر سنها.
وتروي فاطمة أيضا كيف استسلمت مع توالي السنين لقدرها المحتوم واهتمت بالسهر على تربية أبنائها، وكيف أيقظ حديث مع إحدى مدرسات ابنها الحلم القديم بداخلها، عندما طلبت منها مراجعة الدروس مع طفلها في المنزل، قبل أن تخبرها فاطمة أنها لا تعرف القراءة والكتابة، لتقوم المدرسة بعدها بتوجيهها نحو أحد المساجد الذي تقصده النساء لمحو الأمية.
وبعد ذلك الحديث العابر، وفي سن الخامسة والعشرين من عمرها، أدركت فاطمة أن الأوان لم يفتها بعد للتعلم، فسارعت لتسجيل اسمها ضمن المستفيدات من برنامج محو الأمية، بعد أن حصلت على الدعم والتشجيع من أسرتها الصغيرة، لتنطلق في مسارها الجديد وتستدرك ما فاتها في سني الدراسة.
تفوق وتكريم
رغبة فاطمة الجامحة في التعلم، وطموحها الكبير لتحقيق حلم الطفولة الذي سافر معها من قريتها الصغيرة، مكنها من القدرة على القراءة والكتابة في وقت وجيز، وتمكنت بفضل جهدها ومثابرتها من تصدر لائحة النساء المتفوقات في برنامج محو الأمية على المستوى الوطني.
وقد تسلمت فاطمة من يدي العاهل المغربي، جائزة محمد السادس للنساء المتفوقات في برنامج محاربة الأمية بالمساجد في الموسم الدراسي 2017-2018 إلى جانب أربع نساء أخريات.
تقول فاطمة وهي تصف لحظة لقائها بالملك محمد السادش لـ"سكاي نيوز عربية": "إنني أعجز عن وصف الشعور الذي انتابني لحظة وقوفي أمام جلالة الملك، كانت بالنسبة لي جائزة عوضتني عن كل المعاناة التي عشتها، و شجعتني لبذل المزيد من الجهد من أجل مواصلة التفوق والتميز".
ويشرف العاهل المغربي، على تكريم وتوزيع الجوائز على المتفوقين في برنامج محو الأمية داخل المساجد، حيث كان أعطى توجيهاته سنة 2000 لفتح المساجد لتقديم دروس محو الأمية الأبجدية والدينية والوطنية والصحية مع وضع برنامج مضبوط لتنفيذ ذلك.
معاناتي مع أمنيتي
وبعدما تمكنت من رفع تحدي القدرة على القراءة والكتابة بجدارة، كانت الحاجة ملحة لدى فاطمة للتعبير عما يخالجها من مشاعر اختلطت بين الفرح والحزن وما عاشته من معاناة، فقررت تدوين تلك الأحاسيس والمشاعر والإفصاح عنها عبر الكتابة والسرد.
تقول فاطمة: " أجد نفسي عند حلولي ضيفة على أي مناسبة كانت، وقبل أن أتحدث أمام الحاضرين، أكتب صفحة أو صفحتين عن تجربتي المريرة مع الأمية، وكيف استطعت اللحاق بقطار التعلم والتفوق، وكنت ألقى تشجيعا كبيرا، حفزني على الاستمرار في الكتابة".
وأتممت فاطمة اليوم كتابة أول رواية تتناول قصصا من حياتها ومعاناتها مع الأمية، واختارت أن توجه من خلالها رسائل نابعة من واقع تجربتها الخاصة، حيث تروي تارة عن أهمية التماسك الأسري وتارة أخرى عن تربية الأطفال وأهمية توفير ظروف ملائمة لتعليمهم ومنحهم المجال للاستمتاع بطفولة متوازنة.
ولم تكتف فاطمة بكتابة روايتها التي استكملت جميع مراحلها في انتظار صدورها، بل اقتحمت عالم "اليوتيوب" الذي ولجته كسفيرة لمحو الأمية في المغرب، واختارت أن تشارك أبرز محطات حياتها مع متابعيها، وتقدم العبرة والإلهام للنساء اللواتي عشن ذات ظروفها الاجتماعية وسلب منهن حقهن في التعلم.