بقعة في جنوب القاهرة، وتحديدا في عزبة النصر بمنطقة البساتين، تمثل شاهدا ضمن شهود كثر على التنوع الثقافي والحضاري، والسماحة الدينية وحرية المعتقدات في مصر.

ورغم أنها محاطة بسور في واجهته باب حديدي ضخم مكتوب عليه ممنوع الاقتراب، فإنها تحتضن أجساد المخالفين والمغايرين للأغلبية العظمى من الشعب المصري، القادر على هضم التنوع وتقبله ليصبغه بصبغة متفردة.

إنها منطقة مقابر البهائيين، التي ما أن تدخل إليها يستقبلك حارسها بكري السيد صاحب الـ41 عاما، الذي نشأ بين جدرانها منذ نعومه أظافره، ليحمل مسؤولية الاعتناء بتلك المقابر وحراستها خلفا لوالده.

"أعمل في حراسة وتنظيف هذه المقابر منذ 25 عاما، وكانت مهنة أبي"، بهذه الجملة بدأ الرجل الأربعيني المسلم ذو الأصول الصعيدية حديثه مع موقع "سكاي نيوز عربية".

وأضاف: "أتقاضى راتبا 1200 جنيه، ولم أفكر بترك هذا المكان لأنني لم أشعر بالراحة إلا بين جدرانه، فجميع أصحاب الطائفة البهائية يحترموني ويحترمون عقيدتي ويحسنون معاملتي".

وتابع حديثه قائلا: "لديهم كتاب اسمه (الكتاب الأقدس) يقرأون منه المناجاة على الميت، ولديهم صلواتهم الخاصة وهي صلوات فردية فقط وليست جماعية".

أخبار ذات صلة

اليمن.. جرائم الحوثي تطال البهائيين
تقرير يكشف الاستهداف "الممنهج" للأقليات الدينية في إيران

بداية البهائية كانت في عام 1844 وانتقلت لعدة دول، ويؤمن البهائيون بجميع الديانات لكن لهم طقوس خاصة بهم في صلواتهم وزواجهم ودفن موتاهم، وكذلك لديهم تقويم سنوي خاص بهم.

وتعلو كل مدفن قطعة كبيرة من الرخام مدون عليها اسم المتوفى وتاريخ الوفاة وفقا للتقويم البهائي، بالإضافة إلى ترقيم خاص بكل صف من المقابر.

وعن طقوسهم الجنائزية، قال السيد إنها "تشبه طقوس الدفن العادية للمسلمين، لكن تختلف في أن الحاضرين أثناء الدفن يقرأون بعض الآيات من الكتاب الأقدس، كما أن هناك قراءات خاصة في دفن الموتى تختلف من الذكر إلى الأنثى".

ولا يعترف البهائيون بتأبين ذكرى الأربعين للميت، لكنهم يحرصون على زيارة قبره في ذكرى وفاته السنوية، بحسب قول السيد.

"المتصاعد إلى الله" هي الجملة المكتوبة على كل قبر، وكذلك يدونون بجانبها رموزا غريبة من أرقام وحروف تشبه الطلاسم.

"وجعلت لكم الموت بشارا فكيف تخافون منه"، جملة مكتوبة على قطعة الرخام الموجودة أعلى كل مدفن، وهي من الكتاب الأقدس وفقا لحارس مقابر البهائيين.

ويكمل السيد حديثه، بأن عمر المقابر يعود إلى أكثر من 70 عاما، مضيفا أن أصدقاءه في البداية كانوا يعتقدون أنه ينتمي إلى البهائية، لكنهم "عرفوا بعد ذلك أنني لست كذلك وأعمل هنا لأن ديننا الإسلامي أمرنا بالتعامل مع المختلفين معنا بالحسنى".

أخبار ذات صلة

اتهام إيران باضطهاد البهائيين
الأقليات الدينية في المنطقة

جدير بالذكر أنه في عام 1934، وافقت الحكومة المصرية على إنشاء المحفل البهائي وتم تسجيله في المحاكم المختلطة، وفي عام 1940 وافقت على إنشاء المعبد البهائي، وبحلول أواخر 1950 تم إنشاء المجالس المحلية البهائية في 13 مدينة وبلدة، وبحسب التقديرات كان هناك أكثر من 5 آلاف بهائي في مصر في هذا الوقت.

وفي عام 1953 أمر الرئيس الأسبق محمد نجيب بتخصيص قطع من أراضي الدولة لتكون مقابر لهم وفقا لمعتقداتهم الدينية، وتم تخصيصها بالقاهرة والإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية.

إلا أن البهائيين واجهوا مشاكل في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وتشكلت جمعيات للدفاع عن حقوقهم، وكذلك تولى محامون الدفاع عن قضيتهم حتى تم تقنين أوضاعهم كطائفة لها حقوق مرة أخرى بحكم قضائي عام 2009، حيث يتم تدوين ديانة أصحاب الطائفة البهائية بعلامة "-" في بطاقات الهوية الرسمية بالبلاد، وسمح لهم بدفن موتاهم في المقابر المخصصة لهم.

ووفقا لما رصده موقع "سكاي نيوز عربية"، فمن بين جميع مقابر البهائيين يوجد مدفن فارغ لكنه مقدس، ويحرص أتباع الطائفة على زيارته عند زيارة كل ميت لهم.

وعن سر هذا المدفن قال حارس المقابر إنه عرف منهم أنه لمحامي شهير اسمه عبد الجليل بك سعد، كان يدعم أبناء طائفة البهائيين على مدار تاريخها في مصر، ودافع عن حريتهم في معتقداتهم رغم أنه كان مسلما، وأقام له البهائيون هذا المدفن "الرمزي" راغبين في أن يدفن بينهم تكريما له، لكنه أوصى بعدم دفنه به فاحترموا رغبته.

أخبار ذات صلة

البهائية تناشد روحاني وقف "تدنيس" مقبرة

ومن جهة أخرى، قال السيد إن الطائفة البهائية تقدس الرقم "19"، حيث أن السنة عندهم 19 شهرا، والشهر 19 يوما، والصيام في شهر يسمي "العلاء" المكون أيضا من 19 يوما، ومن أسماء الأشهر لديهم "الجلال" و"العلاء" و"الكمال" وغيرها.

وأوضح أن البهائيين تكثر زياراتهم للمقابر في أعيادهم فقط مثل "عيد النيروز"، و"رأس السنة البهائية".

إسلام عربي، أحد سكان المنطقة المجاورة لمقابر البهائيين، قال لموقع "سكاي نيوز عربية" إنه اعتاد رؤية مشاهد دفن البهائيين، وأكد أن "أهالي المنطقة يحترمونهم ولا يتضررون من أي شيء، بل يشجعون الصغار على التسامح معهم لأن المعتقدات والإيمان يحاسب عليه الله وليس البشر".

وأضاف إسلام إن زيارة البهائيين لموتاهم حاملين الورود عادة أساسية، كما أن من طقوسهم في الدفن ترك الميت في خشبته داخل القبر.