ودعت الجزائر، السبت، واحدة من أكثر النساء حبا للبلاد.. إنها إيفات مايو شقيقة المناضل الفرنسي هنري مايو، الذي قدم حياته فداء للثورة الجزائرية.
وتسلط قصة الشقيقين الضوء على ظاهرة الأجانب الذين فضلوا الجزائر، واختاروها وطنا لهم حتى آخر يوم في حياتهم.
ولإيفات مايو، التي توفيت عن عمر 94 عاما في مستشفى مصطفى باشا بالجزائر العاصمة، خصوصية أكبر، فهي من ضمن مئات الأوروبيين الذين آمنوا بـثورة نوفمبر عام 1954 التي قادت إلى تحرير الجزائر.
وعرف هؤلاء بالتزامهم ونشاطهم في سبيل استقلال الجزائر والدفاع عن القضية الجزائرية، والقائمة طويلة كما يقول الباحث سليم حلوله في دراسته عن علاقة الأجانب بالجزائر.
وأوضح حلوله في حديث مع موقع "سكاي نيوز عربية": "هم أنصار الثورة والمثقفون الذين تعاطفوا مع القضية الجزائرية".
الحب والفن والجزائر
من جهة أخرى، تتمحور علاقة الحب التي جمعت الأجانب بالجزائر في الفن، فمثلا الفنانة الروسية ماجدولين زفرش واحدة من هؤلاء الذين عشقوا الجزائر، ولا تزال تشعر بحب البقاء في البلد الذي قضت به حتى الآن 13 سنة.
وتقول ماجدولين في حديثها لموقع "سكاي نيوز عربية": "أصبحت أشعر أنني جزائرية. في البداية كنت خائفة، لكن ما أحس به الآن أن هناك أشياء ثمينة في هذا البلد".
وأضافت: "أنا كفنانة تشكيلية وجدت حياة مبهجة، سواء من الطبيعة الباهرة أو شخصية الرجل الجزائري الذي يتمتع بالترحيب والشهامة، لا يشعرك أنك أجنبي بل ابن البلد".
وتفسر الفنانة الروسية أسباب عشقها للجزائر: "رغم أن أولادي غادروا الجزائر في اتجاهات مختلفة، وزوجي سافر للعمل، فإنني فضلت البقاء، وقد خصصت وقتي لمساعدة مرضى السرطان والرسم وتعليم رياضة الغطس".
وتحيلنا قصة ماجدولين إلى حكاية الرسام الفرنسي العالمي إيتيان ديني (1861-1929)، الذي عشق الصحراء الجزائرية وتحول إلى حلقة مهمة بين شمال وجنوب البحر المتوسط.
تخلى ابن مدينة باريس عن كل الامتيازات التي كان يتمتع بها بحكم أنه ينحدر لعائلة برجوازية، وقرر الاستقرار في بوسعادة (تحولت إلى ولاية في التقسيم الإداري الجديد)، وهي المدينة التي يقول عنها إيتيان: "زرتها فسحرت بجمالها، وأعجبت بشعبها وبأخلاقه الطيبة، فآثرت العيش فيها على فرنسا".
وكانت آخر وصاياه أن يدفن في مدينة بوسعادة بعد أن اعتنق الإسلام وأصبح اسمه نصر الدين دينية، وقد قال عن الجزائر: "إذا كانت الجنة في السماء فهي فوق بوسعادة، وإن كانت تحت الأرض فهي تحت بوسعادة".
تلك القصص تشبه حكاية الراحلة السويسرية إيزابيل إيبرهارت، التي ينقل عنها عبارتها الشهيرة: "سأعيش بدوية طوال حياتي، عاشقة للآفاق المتغيرة والأماكن البعيدة غير المستكشفة" في الجزائر.
سافرت إيبرهارت إلى الجزائر للمرة الأولى في مايو 1897 مع أمها، بحثا عن حياة جديدة، وتضامنت مع الجزائريين في محاربتهم للاستعمار الفرنسي، لكن رحلتها لم تدم طويلا، فقد توفيت في فيضان طوفاني في الصحراء بمدينة عين الصفراء، وكان عمرها 27 سنة.
حكايات حب الطلبة للأجانب
ورغم التحديات الاقتصادية والأمنية التي عاشتها الجزائر خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، فإن رحلات الأجانب للاستقرار هناك لم تتوقف، وقد كان الطلبة الجزائريون الذين استفادوا من منح للدراسة في الخارج حلقة أساسية لتجسيد ذلك.
ومن بين أشهر قصص الحب التي تحولت إلى استقرار، قصة فتاة روسية جميلة تدعى تاتيانا، تزوجت من المايسترو الجزائري الراحل رشيد صاولي، بعد أن تعرفت عليه عندما كان طالبا في معهد الموسيقى بموسكو.
ومنذ أن وطأت قدماها أرض الجزائر عام 1986، لم تغادرها تاتيانا إلا لقضاء أيام مع أهلها في روسيا.
واليوم تاتيانا هي أستاذة للغناء في أوبرا الجزائر.
وتقول تاتيانا عن الجزائر: "إنه الحب الذي يتجاوز كل الحدود. قصتي مع الجزائر قصة خيالية، في البداية كنت أشعر بالخوف لكن في الحقيقية قضيت عمرا جميلا، منذ أن بدأت العمل في الجزائر عام 1988 كأستاذة موسيقى، عملنا طويلا لمدة 10 سنوات، في ظل العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر".
وتحكي تاتيانا عن تلك السنوات الصعبة، التي كان فيها أصاحب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء فريسة للإرهابين: "كنت سيدة تؤمن بأن القرآن رسالة السلام، وهؤلاء الرجال المسلحين بحاجة لمن يتكلم معهم وينصحهم ويقومهم".
كانت الجزائر بالنسبة لها بلدها الثاني، دافعت عنه وشجعته كما تقول: "الفريق الوطني الجزائري لكرة القدم هو فريقي، لكن برحيل زوجي أصبحت أشعر بالحزن، لكن الحمد لله هنا الناس تتكلم والجيران يتكلمون مع بعض عكس الدول الغربية، لا أحد يتكلم مع الآخر، والأعراس هنا اجتماعية".
وافدون حتى من الصين
وتعود حكاية أول صيني قرر الاستقرار في الجزائر إلى عام 1963، وهو الدكتور ليو ينغ هيه، الذي كرمه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بوسام الاستحقاق عام 2013، تكريما لمواقفه وإسهاماته في مجال الطب في الجزائر.
وكان ليو وصل إلى الجزائر مع بعثة للحكومة الصينية ضمن فريق طبي صيني، لتعويض العجز الذي خلفه مغادرة الفرنسيين بعد الاستقلال.
ومنذ ذاك الوقت لم يغادر ليو الجزائر أبدا، وقصته اليوم جزء من حكاية عشرات الصينيين التي فضلوا الاستقرار في الجزائر، ومنهم صينيون تزوجوا من جزائريات، وصينيات تزوجن من جزائريين.
عاش ليو معظم حياته في الجزائر، وعندما انتهى عقده في عام 2014 قدم طلبا لإعادة الانضمام للفريق الطبي.
وفي إحدى التصريحات له للصحافة الصينية، قال ليو عن هذا البلد الذي اعتبره وطنه الثاني: "أحببت هذه الأرض وشعبها. عندما أمشي في الشوارع أو أركب المترو دائما يناديني شخص من بعيد: يا دكتور ليو، هل تذكرتني؟ قد شفيت تماما، شكرا جزيلا لحضرتكم. ثم يعانقني بحرارة".
وتابع: "مثل هذه اللقطات تؤثر في كثيرا. قبل قدومي إلى هنا كانت الجزائر اسما مكتوبا في خريطة العالم. خلال التعامل مع الأصدقاء الجزائريين من مختلف الفئات الاجتماعية يزداد فهمي لقول الرئيس الصيني: الصداقة بين الدول تنبع من التواصل الوثيق بين شعوبها".