صورة نمطية ترسخت في أذهان كثيرين عن الوجود الأجنبي في مصر قبل يوليو 1952، فالأجانب في التاريخ الرسمي والموروث الشعبي مجموعة من الانتهازيين الجشعين جاءوا إلى البلد بهدف سرقة خيراتها والعودة إلى ديارهم.

لكن الكاتب والصحفي المصري مصطفى عبيد، كانت له وجهة نظر مختلفة عن تلك السائدة منذ زمن طويل، ففي كتابه الصادر حديثا "7 خواجات" حاول تقديم سيرة لسبعة من رواد الصناعة الأجانب في مصر، من خلال البحث المتعمق في حياتهم وإسهاماتهم.

ويقول عبيد إنه استلهم فكرة الكتاب عندما كان يعكف على إعداد كتاب آخر هو "هوامش التاريخ"، الذي يعد دراسة عن بصمات الأجانب في مصر، ورغم أنه تناول هذه المسألة بقدر بسيط حينها فإن هذا التناول كان دافعا لديه للنبش في مراجع أخرى عن تاريخ رواد الصناعة من الأجانب.

كنز معلومات

ويضيف صاحب الكتاب لموقع "سكاي نيوز عربية"، أنه زار اتحاد الصناعات المصرية للتعرف على أصول الصناعات في مصر، ولم يجد لأسئلته إجابة لدى المسؤولين بالاتحاد، فسأل عن الأرشيف الخاص بهم، فكانت الإجابة أن هناك شقة قديمة بوسط القاهرة لا يدخلها أحد، بها أوراق قديمة تخص ما يبحث عنه.

ومن هذه الشقة في عمارة الإيموبيليا التاريخية، التقط عبيد الخيط الأول في رحلة تتبعه لسير رواد الصناعة الأجانب، حين عثر على أرشيف مجلة "مصر الصناعية" التي أصدرها الاتحاد منذ عام 1925 حتى 1971.

وفي المجلة لفت نظر عبيد اسم البلجيكي هنري نوس، الذي كان أول رئيس لاتحاد الصناعات المصرية، منذ تأسيسه عام 1922 حتى وفاة نوس عام 1938، وكان يكتب افتتاحيات المجلة منذ إصدارها حتى رحل.

اجتماع مجلس إدارة اتحاد الصناعات المصرية

وإلى جانب أرشيف المجلة، وجد الصحفي المصري محاضر اجتماعات الاتحاد، التي كانت تحوي بين طياتها عددا من النقاشات الثرية بخصوص أحوال الصناعة المصرية ومساعي تطويرها خلال النصف الأول من القرن العشرين.

مع هذه الثروة الهائلة والفريدة من المعلومات، استعان عبيد بعشرات المراجع من مكتبة الجامعة الأميركية وغيرها من دور الثقافة، لرسم ملامح هؤلاء الأجانب السبعة الذين نعرج إلى سيرتهم، لنتعرف على إسهاماتهم في تشكيل بنية الصناعة المصرية الحديثة.

أخبار ذات صلة

أول خط إنتاج مصري متخصص في ملابس أصحاب الهمم
بالصور.. آلة منقرضة في مهمة خاصة بقرية مصرية

هنري نوس

يقول عبيد إن من الأخطاء التاريخية الدارجة أن اتحاد الصناعات المصرية أسس عام 1958 بالقرار الجمهوري للرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1958، حيث إن الحقيقة تقول إن الاتحاد أسسه نوس عام 1922 تحت اسم "جمعية الصناعات المصرية"، لافتا إلى أن اسم الرجل أسقط من أي عملية تأريخ تناولت الاتحاد.

وهنري نوس من مواليد 1875 بمدينة هاسلت البلجيكية، وهو ابن موظف كفء في وزارة المالية، استعان به شاه إيران لتنظيم شؤون الإدارة في الإمبراطورية آنذاك، ودرس الابن كل ما يخص صناعة السكر في هولندا، ثم جاء إلى مصر أوائل القرن العشرين بعد مغامرة لم تنجح في إيران.

هنري نوس

بعد فترة وجيزة بزغ نجم نوس، وحصل على لقب "بك" من السلطان حسين كامل ورئيس الوزراء صادق إسماعيل صدقي، وقدم نوس العديد من المقترحات مثل تعديل نظام الجمارك، وفتح أبواب المدارس الصناعية، وإنشاء معهد للأبحاث الصناعية، وإعفاء السلع التصديرية من الضرائب.

وعندما كان رئيسا لاتحاد الصناعات المصرية، كان له العديد من القرارات المهمة، منها الدفع بمنع استيراد السلع التي تنتج محليا عام 1930، إلى جانب إسهاماته المجتمعية، مثل التبرع لإنشاء جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول) عام 1908، وتبرعه السخي لإنشاء هيئة الإسعاف المصرية في 1917، وهيئة الآثار أيضا.

وبحسب عبيد، سمي شارع باسم هنري نورس في وسط البلد بعد وفاته عام 1938، لكن تم تغيير اسم الشارع في أعقاب ثورة يوليو 1952.

أخبار ذات صلة

حظر المادة الخطيرة.. كيف تحركت مصر لحماية صحة المواطنين؟
مصر.. حلول جديدة لتوفير المياه مع السعي لحل مشكلة سد النهضة

صامويل سورناغا

امتدت جهود بحث الكاتب المصري إلى أحد أهم علامات الصناعة المصرية وهو الإيطالي اليهودي صامويل سورناغا، الذي قدم إلى مصر عام 1900 وأصبح رائد صناعة الطوب والخزف، حيث أسس مصنعا للطوب الحراري في محافظة القليوبية، ولا يزال يطلق المعماريون على هذا النوع من الطوب "سورناغا".

ويلفت عبيد في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية" إلى أن سورناغا كان "عقلية اقتصادية فذة"، وكان متسامحا إلى حد كبير؛ إذ شيد مسجدا ضخما إلى جوار مصنع الطوب، ومن بين أوجه المشاركة الاجتماعية تبرعه لإنشاء هيئة الإسعاف المصرية.

وإلى جانب مصنع الطوب، أسس الرجل في عام 1920 مصنعا للفخار والخزف مستعينا بآلات حديثة، ووفقا للصحفي المصري فإن صالات المزادات لا تزال تعرض زهريات سورناغا.

رسم لمصانع سورناجا للفنان فلدمار ستالويكفيسكي

ومن بين إسهامات سورناغا أيضا، أنه ألّف كتابا قيما باللغة الفرنسية أسماه "الصناعة المصرية" عام 1917، يقول عبيد إنه وجد إشارات كثيرة إليه في العديد من المراجع الأجنبية.

ثيو خارس كوتسيكا

عرف كوتسيكا في ثلاثينيات القرن العشرين بصفة إمبراطور الكحول، وهو من مواليد مدينة كاريستوس باليونان 1857، وكان والده يعمل بالجمرك وهو ما سهل على الابن الانضمام إلى قافلة الحالمين وركوب البحر نحو مصر، أرض الأحلام آنذاك.

التحق كوتسيكا بالعمل في ميناء الإسكندرية، ليصبح جزءا من الوجود اليوناني الطاغي بالمدينة، وبعد سباق محموم نحو تحقيق الثروة أصبح الرجل موردا للجيش الإنجليزي في السودان.

ثيوخارس كوتسيكا

خطو أخرى أسهمت في نجاح كوتسيكا، فعلى وقع حاجة مصر الماسة إلى الكحول نظرا لقلة الإنتاج، وكذلك تدشين مشروع إنارة الشوارع العامة، أنشأ مصنع السبرتو بالقرب من منطقة طرة جنوبي القاهرة.

وفي نهاية العشرينيات، كان كوتسيكا أغنى رجل في مصر، فيما كانت إسهاماته الاجتماعية كبيرة، فكان على رأس المتبرعين لهيئة الإسعاف المصرية، وقبل وفاته تبرع بـ250 ألف جنيه مصري لإقامة المستشفى اليوناني في الإسكندرية، واليوم هناك محطة مترو أنفاق تحمل اسمه في القاهرة.

لينوس غاش

الأب الروحي لصناعة الغزل والنسيج في مصر، الذي تحولت الصناعة بفضلة من وسائل الإنتاج البدائية التي تعتمد على النول إلى الحداثة والآلات، وبحسب وصف الصحفي المصري، كان غاش رجلا شديد الذكاء والاحترافية في مجال الإدارة.

وتعرف مؤلف الكتاب إلى حفيد لينوس غاش الذي يعيش في سويسرا اليوم، وتواصل معه عبر البريد الإلكتروني فكان مصدرا مهما للمعلومات عن جده المولود بسويسرا عام 1888، والذي رحل عن عالمنا عام 1962 ودفن في الإسكندرية.

جاش يستقبل محمد نجيب في اتحاد الصناعات عام 1952

وأسس لينوس غاش عددا من شركات النسيج في مصر، وبرع في إنشاء مجمعات صناعية تضم صناعة الغزل والنسيج والتطريز والتجهيز والصباغة، وهو النظام الذي اتبعته الشركات من بعده.

وأصبح غاش وكيلا لاتحاد الصناعات المصرية، ومن أبرز مآثره تشكيل تحالف مصري لمجابهة الأقمشة الإنجليزية والأوروبية، لحماية صناعة المنسوجات المحلية.

جوزيف ماتوسيان

يعد ماتوسيان أحد أهم رواد صناعة الدخان في مصر، إذ نظم هذه الصناعة الضخمة ودفعها للأمام بابتكار طرق جديدة للتسويق والإدارة، ورغم أنه ليس الصانع الأول أو المستثمر الأجنبي الوحيد، فإنه ترك بصمته في هذه الصناعة.

ماتوسيان

ويقول عبيد إن ماتوسيان من الجيل الثاني في عائلته مؤسسة المصنع، ويوضح أن الاضطهاد الذي تعرض له الأرمن آنذاك، ومنهم ماتوسيان، انسحب على الاستثمارات الخاصة بهم، لكنه لم ييأس ولجأ إلى طرق تسويقية مبتكرة لتجاوز الأزمة.

فيقول إنه ذهب إلى الممثل المصري المعروف نجيب الريحاني، وأبرم معه اتفاقا يدفع له بموجبه مبلغا ماليا مقابل وضع بطاقة خصم في علبة سجائر "ماتوسيان"، ومن تصله البطاقة يحصل على خصم 50 بالمئة لمشاهدة أعمال الريحاني، وبنفس النهج وضع بطاقات لحفلات الراقصة بديعة مصابني، وفي النهاية تجاوز الأزمة وارتفع رأس مال الشركة من 250 إلى 750 ألف جنيه في 4 سنوات.

أحد محال ماتوسيان

ومن الحكايات المأثورة عن جوزيف ماتوسيان، أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر سأله إذا كان بإمكانه تصنيع سيجارة مطابقة لـ"كينت" التي يدخنها ناصر، فعكف الرجل على دراسة مكونات تلك السيجارة وكانت النتيجة سيجارة كليوباترا المعروفة اليوم، وبالطبع أُممت شركة ماتوسيان وأصبحت الشركة الشرقية للدخان.

إرنست ترامبلي

أتى الرجل السويسري إلى مصر في نهايات القرن التاسع عشر وأصبح الأب الروحي لصناعة الأسمنت في مصر، حيث أدار أول مصنع لصناعة الأسمنت أسسه البلجيكيون، واهتم بفنيات الصناعة وبحوثها، وساعد في تطويرها وتحديثها، وفقا لعبيد.

ترامبلي

شارك ترامبلي في تأسيس جمعية الصناعات المصرية، ثم أصبح السكرتير العام الفخري بعد تحوله لاتحاد الصناعات المصرية عام 1930، وهو من الشخصيات التي حصلت على نيشان السلطان فؤاد، واعتزل العمل في السبعينات من عمره وعاش في مصر حتى توفى في عقده التاسع.

الكونت دي زغيب

أحد الأسماء اللامعة والرائدة في الصناعات الغذائية في مصر، فقد أسس أول مصنع للمربى والشربات في مركز نوى بالقليوبية عام 1901، واستخدم في ذلك محاصيل مثل التمور والبرتقال والخوخ والفراولة والتين والمشمش.

وفيما بعد أضاف صناعة الصلصة إلى نشاطه، وكان إنتاجه يغطي احتياجات السوق المصري ويصدر منها للسودان وقبرص وسوريا، وكان للكونت دي زغيب اهتمام واسع بالفن، فتبرع بقصره في شارع فؤاد (26 يوليو حاليا) لاستضافة متحف الفن الحديث.