مشهد مهيب لا يتكرر سوى مرة واحدة كل 7 أعوام داخل قرية سيلا بمحافظة الفيوم جنوب القاهرة، عندما يحمل 40 رجلا تابوتا ضخما يستخدم في ري الأراضي الزراعية، وينطلقون به إلى مجرى النيل الذي يشق بلدتهم، في مهمة خاصة، بينما يلتف حولهم الأهالي لمتابعة الحدث السعيد.ي
و"التابوت" عبارة عن آلة خشبية تنتمي إلى السواقي المنتشرة في الفيوم، تُستعمل في رفع المياه إلى الأراضي الزراعية، وتوضع بشكل أفقي، كما تتحرك بقوة دفع المياه القادمة من النهر وليس الدواب.
والفيوم هي المحافظة الوحيدة التي تضم تلك الأنواع من السواقي، وفقا للهيئة العامة للاستعلامات المصرية، ونظرا لكونها أحد أهم معالمها أُطلق عليها "بلد السواقي"، فضلا عن اختيارها كشعار للمحافظة.
واشتهرت ساقية قرية سيلا في عام 2014 بعد انتشار صور على مواقع التواصل الاجتماعي للأهالي أثناء نقلها على أكتاف الرجال، ونجحت آلة رفع المياه في مهمتها حتى مطلع العام الحالي، قبل حاجتها إلى التغيير بواحدة جديدة خلال الآونة الأخيرة.
وعن سعادة أهالي قرية سيلا بتلك التجربة، يقول محمد بليدي، أحد المشرفين على تصنيع وتركيب التابوت لموقع "سكاي نيوز عربية": "الساقية تغذي 66 فدانا بالمياه، وتوقفها بمثابة انقطاع الحياة عن قريتنا، لذلك يفرح الجميع بتركيب التابوت، ويتوافد علينا الجيران من القرى الأخرى لمشاهدة الأمر".
ويتابع الرجل الستيني حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية": "خلال الشهور السابقة علمنا بضرورة تجهيز تابوت آخر، مررنا على أصحاب الأراضي الزراعي لجمع الأموال اللازمة لصناعته، ولجأنا إلى عائلة شهيرة بتنفيذ السواقي بمحافظة الفيوم".
ويعتقد أبناء القرية أن التابوت يمد أراضيهم بالمطلوب من المياه بأقل تكلفة ممكنة، لعدم احتياجه إلى مواد تشغيل باهظة الثمن "للمواتير" والآلات الحديثة، بحسب بليدي، فضلا عن تعاملهم مع الساقية كإرث من الأجداد يحافظ الجميع عليه منذ عقود طويلة.
ويتحدث ربيع رمضان، أحد أقدم صانعي السواقي بالفيوم، لموقع "سكاي نيوز عربية"، قائلا: "انقرضت التوابيت في المحافظة، لكن هناك بعض القرى التي تتواصل معنا لتصليح القديم أو صناعة سواقي أخرى، وقرية سيلا تحديدا تمتلك أكبر ساقية في مصر، تزن 5 أطنان ويصل قطرها إلى 8 أمتار، حتى تتمكن من رفع المياه من منطقة منخفضة إلى مستوى الأراضي".
ويذكر رمضان الذي ورث المهنة عن والده، خطوات صناعة ساقية قرية سيلا: "عملنا لمدة شهرين بصورة متواصلة لتجهيز التابوت، حصلنا في البداية على أنواع من الأخشاب خاصة بالسواقي، نقوم بتقطيعها لمقاسات وأشكال محددة، ثم تركيبها داخل أرض زراعية مجاورة لمكان الساقية القديمة".
ويضيف الصانع الماهر للسواقي: "الأيام التي تسبق نقل التابوت تتضاعف الجهود لإنهاء كافة الخطوات، منعا لوقوع أية أخطاء عند التشغيل، ونعتمد على عشرات الأشخاص لحمل الساقية، بدلا من استخدام الأوناش تفاديا لتعرضها للأذى".
وعند تحديد الموعد المنتظر لتشغيل التابوت الجديد، حرص أحد أبناء القرية، يدعى أحمد مدني، على التواجد والمشاركة، قائلا: "إنه حدث كبير داخل قريتنا، ويهتم الجميع بالحضور والمساندة.. رؤية 40 رجلا يحملون الساقية هو مشهد نادر يدل على تكاتف الأهالي مع بعضهم".
ويسترسل الشاب العشريني لموقع "سكاي نيوز عربية": "تعلمنا من التجربة السابقة عندما حملنا التابوت لمسافة طويلة وعبور خط السكة الحديد، لكن في المرة الحالية خفضنا الوقت والجهد بصناعة الساقية في أرض تبعد 300 متر فقط عن وجهتنا".
ورغم صعوبة الأمر، فإن الحماس على وجوه المشاركين في نقل التابوت والأغاني والهتافات الحماسية التي علت من حناجرهم، ومجيء العشرات من الأهالي للتخلص من الساقية القديمة، خير دليل على فرحة الجميع بتلك الخطوة، كما يؤكد أحمد عماد، أحد المشاركين في تلك التجربة.
ويردف عماد لموقع "سكاي نيوز عربية": "شيء لا يصدق ما رأيته، لم أكن أتخيل قدرة الرجال على حمل تلك الساقية العملاقة، ظلوا صامدين بطريقة مدهشة، وبعد الانتهاء من المهمة وقفوا بجوار التابوت لالتقاط صورة تذكارية مع أولادهم والابتسامة تعلو وجوههم".
ولا تنتهي رحلة القرية مع الساقية عقب تشغيلها، كما يؤكد صانعها لموقع "سكاي نيوز عربية"، إذ يتعين على أصحاب الأراضي الزراعية الاهتمام بها والتعامل معها بحرص، وصيانتها بشكل دوري للحفاظ على عمرها لأطول فترة ممكنة.