"الدنيا بخير يا خييّ والحمد لله رب العالمين والله يحب المحسنين" 3 عبارات يختصر بها أبو سامي وهو في خريف العمر، السبعيني الذي لا يزال يسعى في طلب الرزق، ابن مخيم صبرا للاجئين الفلسطينيين الذي قسى عليه الدهر وجارت عليه الأيام.
يقف في عز برد يناير قرب مدخل "جامعة بيروت العربية" في منطقة الطريق الجديدة في بيروت مفتشاً عن رزقه على عربة اشتراها بما تيسر له من مال، والعربة كانت معدة مسبقا لبيع الخضار في السوق القريب من مخيم اللاجئين الأشهر في لبنان "سوق صبرا"، وهو الأكبر غربي العاصمة بيروت.
على العربة ينشر أبو سامي باهتمام "أيام طه حسين" و "موسوعة خفايا الأبراج" وكتبا باللغة الأجنبية الفرنسية والإنجليزية منها وحتى الروسية وقصص حب وغرام الثمانينيات والتسعينيات، ومجلات فنية قديمة كانت تتابع في سالف الأيام أخبار الفنانين والفنانات وفضائحهم.
التعب والشقاء باديان على الوجه الشاحب بملامحه المجعدة والقامة النحيلة التي صارعت في هذه الحياة 66 عاماً يقول عنها أبو سامي: "صرت منذ زمن نسيته مقطوعاً من شجرة رغم أنه بقي عندي أخوة وأخوات ولكن حالهم كحالي وأنا صغيرهم".
وتابع: "أحيانا أكاد انسى اسمي. في كل حال دعك من اسمي وقولي فقط: أبو سامي"، قالها والخوف باد على محياه من أن أكون تابعة لأحد الأجهزة الأمنية فأقوم بالوشاية به فيخسر كل ما يملك: "هذه العربة".
وما لبث أن استأنس وانطلق ببوح غريب، بوحُ موجوع لمن قبلت أن تستمع لشكواه من ظلم الأيام، وقال وهو ينفث دخان سيجارته وينظر إلى السماء والدمعة في عينيه: "أهلي توفوا وأنا صغير، والدي هاجر من مدينة يافا الفلسطينية في عام 1948 وأنا ولدت في مخيم صبرا، وفيه عشت طوال حياتي، نجوت من الموت خلال الحروب والمجازر المتكررة والغزو الإسرائيلي للبنان، وحالياً إن شاء الله سأتغلب على الكورونا فمن له عمر لا تقتله شدة كما يقول المثل عندنا".
ويسترسل أبو سامي في كشف أسراره فيقول: "والدتي قبرصية"، فأنظر إليه بتعجب:" قبرصية كيف؟"، يجيب: "كان والدي قد لجاً إلى قبرص على أمل الهجرة في الستينيات إلى أوروبا وتزوج هناك، ولكن يبدو أنه لم يوفق في مهمته، فرجع مع والدتي القبرصية وسكن في محلة صبرا وولدت أنا هناك في المخيم، وأخذت عن والدتي القبرصية لون عيونها فقط".
الكتب والمجلات
من أين يحصل أبو سامي على الكتب والمجلات والأدوات التي يبيعها على العربة؟ حول ذلك يروي فيوضح: "أقوم بجمعها من بعض سكان المنطقة والشوارع المجاورة الذين يتخلصون منها لضيق المكان أو الانتهاء من قراءتها أو لسوء حالها، وأجمع بعض الكتب والمقتنيات والمجلات القديمة التي يتخلى عنها أصحابها ويرمونها هناك، ويشير بعينيه إلى مستوعبات القمامة القريبة من المكان، لأحصل على بضعة آلاف من الليرات يومياً أسد فيها الجوع مع ما يتصدق به جيران المحلة علي بما تبقى لديهم من طعام في عصر كل يوم".
وردّا على سؤال لماذا لا ترتدي الكمامة؟ يجيب:" قد تكون عندي مناعة ضد كورونا فأنا لا أخافها"، ويردف بنبرة فيها تحد وسخرية: "في كل الأحوال الجوع أسوأ من كورونا، وإذا بقيت في البيت لا أحصل على قوت يومي وليس عندي حل آخر".
يسكن أبو سامي في مخيم وطى المصيطبة القريب من المنطقة، حيث يتقاسم تخشيبة (غرفة صغيرة مسقوفة بالخشب والصفيح) مع أحد أصحابه ويشارك معه في إيجارها بما تيسر ليبيت فيها ليله اتقاء للمطر والبرد.
أبو سامي بائع الكتب على الرصيف هو نموذج من فئة كبيرة من الناس الذين جارت عليهم الأيام على أرض لبنان، ولم تسعفه لا مساعدات الدول الغنية ولا منظماتها الدولية التي تعهدت سابقاً بالدعم، يكافح كما الآلاف من اللبنانيين وغير اللبنانيين الذين يقيمون على هذه الأرض.
ضائقة اقتصادية خانقة أدت إلى ارتفاع نسبة الفقر لدى الشعب اللبناني ومن يسكن على أرضه نازحاً أو مهجراً أو لاجئاً إلى أكثر من 55 بالمئة، وأكثر من نصف هذه النسبة باتت ترزح تحت خط الفقر، وجاء وباء كورونا ليزيد المشكلة تعقيدا، ناهيك عن وضع سياسي صعب لا يقل عنها سوءاً وبؤسا.