دون كلل، يشق شريف محمود يس النيل بمركب صغير، في طريقه نحو جزيرة سهيل النوبية، الواقعة جنوب أسوان، من أجل نقل مزيد من المقتنيات النادرة إلى بيت العائلة الذي تحول خلال الشهور الأخيرة لمتحف يضم قطع تنتمي لعصور قديمة، بعضها من القرن التاسع عشر.
ويحمل الرجل الخمسيني "التُحف" في طرقات الجزيرة النوبية، بينما ينظر إليها بسعادة بالغة كونه عاشق لـها، ويقطع مسافة طويلة للوصول إلى المكان الذي يحوي عملات رومانية وإسلامية وعشرات الكاميرات العتيقة وأسلحة تعود إلى الحرب العالمية الثانية.
ويقول شريف في حديثه لموقع سكاي نيوز عربية: "عشت سنوات عديدة ألتقط (الأنتيكة) من شتى محافظات مصر، أذهب خلفها من أسوان إلى القاهرة، ومن الإسكندرية إلى الواحات، وحلمت دائما بجمعها في بلدي (النوبة) ليستمتع بها الجميع".
ويضيف شريف بينما يقوم بترتيب وتنسيق مقتنياته: "يطل المكان على النيل في مشهد ساحر، لذلك وقع الاختيار عليه، وقمت بتقسيمه إلى عدة غُرف، بداخل كل واحدة مئات القطع القديمة التي تحمل خلفها قصص وتواريخ هامة، مثل الجنيهات المصرية التي تم إصدارها في عام 1898".
لدى شريف عشق منذ طفولته بالأشياء النادرة، ورث حُب الأعمال الفنية من والده، ومنذ عرف طريق المزادات والأسواق المتخصصة في بيع كل ما هو قديم وذو قيمة عاهد نفسه على الاستمرار في تلك الهواية، إذ تتملكه البهجة عند السير وسط "الأنتيكة" والحصول على قطعة جديدة تنضم إلى ممتلكاته النفيسة.
ويتابع عاشق التُحف لموقع سكاي نيوز عربية: "كانت البداية من أسوان، أبحث في مناطق بيع الخردة وغيرها من الأماكن، حصلت على أشياء ثمينة للغاية، مثل الكاميرا التي استُخدمت في تصوير مراحل بناء السد العالي، وهي روسية الصنع، وعثرت أيضا على كاميرا خشبية تعمل فقط بالمياه".
وعند انتقاله إلى القاهرة في التسعينيات للعمل بمجال الديكور، كان سؤاله الدائم عن مواعيد المزادات التي تقام في العاصمة وخاصة حي الزمالك، تعرف على مجموعة من المهتمين بالأمر، وصار أحد أشهر الزبائن في هذا العالم، ينتقل من جاليري إلى آخر وداخل مناطق مختلفة مثل الحسين ومصر القديمة ودرب النحاسين للبحث عن مراده.
يردف ابن النوبة بحماس: "قضيت أيام لا تنسى في المزادات، اشتريت مسدس ألماني صنع عام 1857، وملابس كاملة لجندي من أيام المماليك، و (ناموسية) عمرها 250 عاما، وساعة جميلة من فترة الخمسينيات، وحذاء من عصر الحرب العالمية الثانية، جميع المقتنيات معها أوراق تُثبت مواقيت صناعتها واستخدامها".
ويستطرد شريف لموقع سكاي نيوز عربية: "لم يتفهم من حولي مدى محبتي للقطع النادرة، تعجبوا من إنفاق أموال طائلة عليها، أحيانا تقول لي ابنتي أنني أحب (الأنتيكة) أكثر منهم، لكن مع الوقت انتقل الشغف إليها وأصبحت تساعدني في نقل أشيائي الثمينة عند قدومي للجزيرة".
إرسال المقتنيات الغالية من العاصمة إلى جزيرة سهيل النوبية تجربة تحتاج إلى خطة مُحكمة، وينفق شريف الكثير من الأموال لنقلها عبر عربات شحن إلى أسوان، يستقبلها ويتابع إنزالها إلى مركب نيلي قبل أن يتوجه بها إلى الجزيرة ومنها يسير على أقدامه لنحو كيلومتر حتى النقطة المنشودة.
ويتحمل شريف تلك المشقة عن طيب خاطر مؤكدا لموقع سكاي نيوز عربية أنه يبقى قلقا طوال عملية النقل حتى يطمئن على سلامة القطع النادرة وعدم وقوع أي سوء لها خلال الطريق، لأنها أشياء لا تعوض ولا يمكن الحصول عليها مرة أخرى.
وفي نهاية العام الماضي، تكدس بيته بمجموعات عديدة من الأدوات ذات القيمة التاريخية، لذلك اتخذ الرجل الخمسيني قراره بوضعهم في منزل آخر بطريقة لائقة بالمقتنيات، ويوضح لموقع سكاي نيوز عربية قائلا: "فُرصة لأهالي النوبة وضيوفنا من الخارج للتعرف أكثر على التراث والثقافة المصرية وإلقاء نظرة على كنوز من أنحاء العالم".
ويذكر شريف: "عكفت على تصميم المكان على الطريقة النوبية، زينت الجدران بأشكال وألوان مبهجة، ثم وزعت أكثر من 1500 قطعة فريدة في جميع الغرف، وخصصت غرفة للتراث النوبي بها جميع أدوات المعيشة التي استخدمها أجدادنا قديما، جمعتها من كبار السن بالمنطقة.
ولا يحتاج شريف إلى تأمين المكان من يد اللصوص، حيث تُترك المقتنيات الغالية دون حراسة لاشتهار أهالي النوبة بالأمانة وندرة أعمال السرقة والسطو في المنطقة، كما تحمي جميع العائلات في جزيرة سهيل ممتلكات الغير، وفقا لشريف.
وعند إعلان الحكومة المصرية فتح المناطق السياحية في سبتمبر الماضي، استقبلت أسوان وفود من السياح الأجانب، زار بعضهم بيت شريف ليتلقى ردود فعل طيبة منهم على ممتلكاته النفيسة، عرض البعض شراء قطع عديدة لكنه رفض بلطف موضحا أنه يعتبرها مثل أولاده.
ويكشف عاشق المقتنيات النادرة عن قيمتها لموقع سكاي نيوز عربية قائلا: "تُقدر القطع التي أمتلكها بأكثر من مليون جنيه لكنها ليست للبيع، هدفي أن يُصبح المكان محط أنظار مُحبي التراث وأن يتوافد عليه آلاف البشر سنويا، هي تجربة فريدة أن تجلس وسط أدوات تنتمي لأزمنة بعيدة".