بينما انشغل الجمهور بلقطات السجادة الحمراء المثيرة في مهرجان الجونة السينمائي، كانت السينما المصرية على موعد مع إنجاز فريد تحقق بلا صخب يذكر؛ حين تُوج الفيلم المصري القصير "ستاشر.. أخشى أن أنسى وجهك"، بالسعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي.
ونافس فيلم "ستاشر" للمخرج المصري سامح علاء 11 فيلما قصيرا في دورة مصغرة من مهرجان كان، عُقدت في الفترة من 27 حتى 29 أكتوبر الماضي، كما اُختير في الدورة الـ 73 للمهرجان الفيلم الروائي الطويل "سعاد" للمخرجة آيتن أمين.
هذا التتويج الهادئ للسينما المستقلة، عززه فوز المخرج المصري أنطونيوس باسيلي بجائزة أحسن فيلم قصير، عن فيلم (كان مرة في ولد)، في مهرجان Rising Sun الدولي للأفلام باليابان، الذي انعقد في الفترة 6 إلى ٨ نوفمبر الجاري.
ويفتح هذا النجاح الباب واسعًا أمام سؤال كبير، ما السر وراء هذا النجاح الذي تحققه السينما المستقلة بينما يغيب عنها الدعم المادي والاحتفاء الجماهيري اللذين تحظى بهما السينما التجارية المتأخرة بطبيعة الحال عن المنافسة العالمية؟
البدايات
وفقًا لما أورده الدكتور مالك خوري في كتابه "السينمات البديلة: مكونات.. تمايزات.. وآفاق"، فإن أول تحرر للسينما من هيمنة رأس المال كان مع بداية الثورة البلشفية في روسيا، بعد تأميم كل الصناعات وفي القلب منها صناعة السينما، التي اعتبرها لينين أحد أهم أنواع الفنون، فتوجهت الصناعة إلى خدمة أهداف الثورة غير عابئة بالاعتبارات التجارية.
وتذهب تماضر نجيب الأستاذة بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة، إلى أن الحاجة إلى السينما المستقلة ظهرت عندما قرر الشباب الخروج من الاستديوهات الضخمة، للتحرر من تكلفة الإنتاج الضخمة بالإضافة إلى الحاجة إلى التعبير عن أنفسهم بعيدًا عن الأفكار الموجهة السائدة آنذاك.
وتقول نجيب في حديثها لـ"سكاي نيوز عربية" إنها لا تعتبر السينما الروسية البداية للسينما المستقلة؛ إذ إنها تمثل في النهاية رأي الحكومات، في حين ترى في بيان مجموعة الثلاثين في فرنسا عام 1953 بداية التأصيل الحقيقي لمفهوم السينما المستقلة، بعدما وقع عليه مخرجون مثل: جاك-إيف كوستو، ألان رينيه، وغيرهم.
السينما المستقلة في مصر
واعتبر الناقد الراحل سمير فريد بعض أفلام التسعينيات "موجة جديدة" يمكن اعتبارها من الأفلام المستقلة خاصة أنها لا تنضوي تحت لواء السينما السائدة، مثل أفلام يوسف شاهين الثلاثة: (المهاجر، المصير، الآخر)، كذلك أفلام: "البحث عن السيد مرزوق" لداود عبدالسيد، و "المواطن مصري" لصلاح أبو سيف، و"المدينة" ليسري نصر الله، وغيرهم.
لكن الدكتورة تماضر نجيب ترى أن البداية الحقيقية لهذا الفن السينمائي في مصر، بشكله المعروف حاليًا، تعود إلى ظهور تقنية التصوير الديجيتال، وهو الأمر الذي ساعد في تقليل كُلفة الإنتاج بشكل غير مسبوق، وساعد الشباب على إنتاج أعمالهم الخاصة.
وعلى وقع وجود تقنية الديجيتال، خرجت للنور أول الأعمال من هذا النوع عام 2008 مثل أفلام: بصرة للمخرج أحمد رشوان، و"عين الشمس" لإبراهيم بطوط، ثم تتابعت الأعمال التي تأثرت في أسلوب الإخراج والتصوير والمونتاج بالسينما الأوروبية.
وتُرجع "نجيب" سبب انتشار ونجاح هذه السينما المستقلة في مواجهة الأنماط السائدة، إلى غياب الرقابة نظرًا لعدم حاجتها إلى دور العرض التقليدية، خاصة مع تواجد أكثر من نافذة للعرض الرقمي، في ظل عالم التواصل الاجتماعي.
مغامرة
الناقد الفني طارق الشناوي يرى من جانبه أن النجاح الذي حققته السينما المستقلة في مصر يرجع بالأساس إلى أن صُناعها لديهم روح المغامرة، والفن في عمقه لابد أن يحمل قدر كبير من المغامرة.
ويوضح لـ سكاي نيوز عربية" أن أغلب المنتجين حَالِيًّا يتجهون إلى إنتاج نوعية أفلام سبق تجربتها وحققت نجاحًا، فشركات إنتاج الأفلام التجارية تنقصها روح المغامرة، على عكس الشباب الذين ينتجون أفلامًا مستقلة.
ويكشف الشناوي أنه خاطب نقابة السينمائيين والمجلس القومي للسينما لإقامة احتفال ضخم يليق بصناع فيلم "ستاشر" الحائز على السعفة الذهبية من مهرجان "كان" مؤخرًا.
ويختم الناقد الفني حديثه بالتأكيد على أهمية تدشين صندوق قادر على الدعم والفرز، وأن يكون هناك تباين في أشكال الدعم كافة، سواء للأفلام الطويلة أو القصيرة أو التسجيلية، لافتًا إلى أهمية إدراك الدولة لدور السينما كقوة ناعمة لها تأثير عالمي واسع.
إشكاليات الإنتاج
وفي السياق ذاته، يقول مارك لطفي، منتج فيلم "ستاشر" وأحد منتجي فيلم "سعاد" الذي كان ضمن اختيارات الدورة 73 لمهرجان "كان": "هناك لبس في تعريف ما اصطلح على تسميته بالسينما المستقلة، يتكرر حولنا دائمًا تعريف تبسيطي لكنه مخل بعض الشيء وهو أن السينما التجارية تستهدف شباك التذاكر فقط، بينما تقدم السينما المستقلة الفن للفن".
ويضيف لطفي لـ"سكاي نيوز عربية": السينما تُعرف نفسها كفعل فني أو كمنتج فني يحاول أن يصل إلى مدى واسع من الجمهور، وهذا بالطبع يسبب إشكالية للسينمائي، وهي كيف تتعامل مع ضدين هما أن تعبر عن ذاتك بلا قيود وتكون صادقًا وفي الوقت نفسه تصل لكل الجمهور .
وعن مصادر الربح، يوضح المنتج المصري أن السينما المستقلة تستهدف الربح بالطبع، لكن ليس على حساب جودة العمل فنيًا، وهناك العديد من القنوات العربية والعالمية أصبحت تشتري وتعرض هذا النوع من الأعمال، وإن لم يكن بنفس كثافة الأفلام التجارية، لكنه يحدث بدرجة ما.
وردًا على الانتقادات التي توجه إلى صناع السينما المستقلة، بخصوص إعطاء الأولوية للمهرجانات على حساب الجمهور، يؤكد لطفي أنه ليس في صالح العمل الانصياع تمامًا للمهرجانات كهدف يجب استرضاؤه أثناء التحضير للعمل، أيضًا لا يمكن إهمالها لأنها موجودة بالفعل.
وختم قائلا: "هناك زاوية مهمة يجب ألا نغفلها وهي أن العمل الفني يعبر بالأساس عن شخصية الفنان وذاته، فكما لا يجب أن يخضع لتنميط السوق المحلي، أيضًا يجب ألا يخضع بأي شكل للتنميط الغربي، ليس لعيب في ذلك، بل لأنه تنميط مبني عن تصورات غير دقيقة عن الشرق، وأعتقد أن هذا تحد كبير لصناع الأفلام المستقلة في الفترة المقبلة، إن كان لديهم الرغبة في تأسيس سينما خاصة بهم، تستطيع المنافسة عالميا".