ودعت تونس واحدا من أبرز عقولها وأهم مفكري المنطقة المغاربية، عالم الاجتماع منصف وناس، بعد صراع لم يطل مع فيروس كورونا المستجد، الذي لم يمهل فقيد الجامعات التونسية كثيرا.
وناس الذي كان يشغل منصب مدير عام مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، ويعمل أكاديميا بالجامعات التونسية، ومحاضرا بندوات الفكر والثقافة في تونس وخارجها، رحل مخلفا ألما في قلوب طلبته وزملائه والنخب التونسية.
وأصدر الراحل عددا من المؤلفات أبرزها كتب "الشخصية التونسية"، و"الشخصية الليبية ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة"، و"المشاركة السياسية في المغرب العربي"، و"المقاولون الجدد في ليبيا"، كما ترجم "صدام الحضارات" لصامويل هنتغتون، وكتب مؤلفات أخرى باللغة الفرنسية، أما آخر إصداراته فكان ترجمة لكتاب "العقل المحكم" لإدغار مورين، الذي صدر في أواخر سبتمبر الماضي.
وكان وناس أستاذا مختصا في علم الاجتماع السياسي والثقافي، ومؤطرا جامعيا للكثير من الطلبة على امتداد أجيال، غير أنه لم يكن رجلا عاديا في عيون تلاميذه ورفاقه الذين رثوه بكلمات مؤثرة تثني على عطائه الفكري وأخلاقه الرفيعة وتواضعه ودعمه اللامتناهي لهم في مختلف مسارات التعلم والبحث.
وقال أحد طلبته، الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم، في تصريح لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن وناس "يمثل الجيل الثاني لعلماء الاجتماع في تونس، فبعد أن كان الجيل الأول فرانكوفونيا ميالا إلى التنظير والكتابة بالفرنسية، فإن وناس، ورغم حصوله على الدكتوراه من جامعة السوربون، أحدث تحولا في العلوم الاجتماعية، وهو رائد الجيل الذي عرّب العلوم الاجتماعية، كما دعا للتفكير علميا في واقع مجتمعاتنا العربية؛ وهذا من أكبر الإنجازات التي حققها، فضلا عن إنسانيته وتفانيه أكاديميا".
وأضاف الحاج سالم، أن "السمة الفارقة للراحل هي أيضا اشتغاله في علم الاجتماع السياسي وفي فهم البنى السياسية خاصة في تونس وليبيا، حتى إنه نشر مقالات مهمة عن اللجان الثورية والمعارضة الليبية في وقت تاريخي صعب، ونفذ إلى المجتمع الليبي ليقدم طرحا مهما وعميقا، وتمكن من شرح المجتمع من الداخل شرحا وصل إلى الدوائر الأكاديمية الغربية".
أما صديقة الكاتب الليبي مصطفى الفيتوري، فقد قال إنه "عرف الرجل ضمن جبهة شعبية من التقدميين التونسيين والعرب المناهضين للتدخل الأجنبي في ليبيا، في وقت كان فيه الانحياز لليبيا يعتبر شبهة في حد ذاته"، مشيرا إلى أن وناس "عمل بلا كلل وبلا مقابل من أجل ليبيا التي عرفها من سنوات طويلة وزارها مرارا، وكتب عنها كثيرا".
وعن "وناس الإنسان"، قال الفيتوري إن "الرجل تميز بأدب جم وأخلاق عالية، وامتلك ودا لا حدود له لليبيا والليبيين"، مضيفا: "كان يعتصره الألم في كل لقاء من لقاءاتنا بسبب ما يجري في ليبيا".
من جهته، اعتبر الكاتب والشاعر عادل المعيزي في تصريح لموقع "سكاي نيوز عربية"، أنه ودع الرفيق والصديق، وقال عنه: "لم يكن تواضع فضيلة من فضائل الأخلاق الأرستقراطية، ولم يكن ترفا فلسفيّا، لكن كانت تصرفاته تلك تنم عن قيم رمزية أولا، وتنحدر من رؤية عالم اجتماع فذ يقترب من المجتمع وأعماقه ويعايشه حتى وإن بدا أنه سجين أسوار الجامعة والمؤسسات الأكاديمية".
وأضاف المعيزي: "عرفته في نهاية ثمانينات القرن الماضي من خلال كتاباته عندما لمع اسمه في الأوساط الفكرية والسياسية وحتى الأدبية، ثم التقيته لأول مرة في مطار تونس قرطاج عندما كنا نتأهب للمشاركة في ملتقى ثقافي في جامعة ناصر في ليبيا سنة 1991، كنت شاعرا شابا أهاب الاقتراب من أساتذة الجامعة للفارق الثقافي والعلمي والاجتماعي، فاقترب مني الأستاذ وناس وناداني باسمي وحياني بحرارة. لم أكن أتصور أنه في ذلك الزمن كان يتابع الحركة الأدبية في تونس ويقرأ للكثير من الشعراء الشباب، وقد كان نصيرا لي بعد ذلك في تجارب صعبة عشتها".
ويستطرد: "لعل تخصصه في علم الاجتماع الثقافي والسياسي والأنثروبولوجيا هو الذي مهد لتكون علاقاته مع المجتمع والناس بذلك العمق وبتلك البساطة، أو لعل شخصيته تلك هي التي بوأته ليكون من أهم السوسيولوجيين الذين تعمقوا في روح الشخصية التونسية والعربية، وقد كان زاهدا في الدنيا من طينة العلماء الكبار الذين كنا نقرأ عنهم في التاريخ البعيد".
ومن جهة أخرى، قال أستاذ علم الاجتماع فؤاد الغربالي، إن "الراحل وناس كان يشتغل على القضايا الاجتماعية الكبرى، وقد عاش حياته أستاذا محبوبا من أغلبية الطلبة، إذ يتعامل بلطف ومودة مع الجميع ويحظى باحترام كل من يعرفه"، وأضاف: "كثيرا ما كان يحدثنا في الدروس عن الالتزام بهموم الوطن العربي الذي يعيش التخلف والاستعمار، وانعكس هذا في كتاباته عن ليبيا والنخب العربية، وحتى زمن نظام بن علي كانت آراؤه موضوعية رغم الاستبداد".