قبل أسابيع قليلة من التحاقي بحرب العراق عام 2003 كضابط عسكري أميركي شاب، طُلب مني مشاهدة فيلم "معركة الجزائر" الذي أخرجه جيلو بونتيكورفو مصورا مشاهد دراماتيكية في خمسينيات القرن الماضي ضد الاستعمار الفرنسي.
لقد شاهد هذا الفيلم معظم الجنود الأميركيين الذين سرعان ما أجهدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع حرب عصابات في العراق، فالبنسبة للبنتاغون فإن معركة الجزائر درسٌ أساسي ضمن برنامج تدريب الجنود والقادة الذين تم اختيارهم للمشاركة في حرب العراق".
هذا جزء من شهادة الضابط السابق في الجيش الأميركي والباحث "فريدريك ويري"، نقلها في كتابه في كتابه عن حرب العراق والانتفاضات العربية، ويسرد بين السطور جانبا من كفاح البطل الجزائري الشهير بلقب "علي لابوانت" الذي أرهق قوات الجيش الفرنسي خلال الثورة الجزائرية.
حدث كبير بالنسبة للفرنسيين
في مثل هذا اليوم 11 أكتوبر من عام 1957 عنونت صحيفة لوموند الفرنسية بالبنط العريض: "علي لابوانت عثر عليه بين ضحايا انفجار حي القصبة"، وهو خبر حمل الكثير من البهجة لقادة الجيش الفرنسي.
فحسب تقارير المستعمر فقد استغرق الأمر ثلاث سنوات من البحث والتحقيق للعثور على هذا البطل، وفي الأخير لم تتمكن فرنسا من إلقاء القبض عليه حيا، بل قامت بتفجير البيت الذي كان يتواجد فيه بحي القصبة في الجزائر العاصمة، لتضع حدا لحياته رفقه ثلاثة من أبرز رموز الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي خلال الثورة الجزائرية 1954-1962(الشهيدة حسيبة بن بوعلي وبلعيد ومحمود بوحميدي وعمر الصغير).
يحيي الشعب الجزائري كل عام ذكرى رحيل علي لابوانت الذي استشهد بتاريخ الثامن من أكتوبر 1957، ويجمع كل من عرفه عن قرب أو سمع عنه على وصفه بالشاب الشجاع الذي لا يتزعزع.
ويقول عنه قائد المنطقة الحرة بالجزائر العاصمة خلال الثورة المجاهد ياسف سعدي: "كان قوي البنية وصاحب شخصية حادة، كان الفرنسيون يخافون من ذكر اسمه".
ويصفه الكاتب والوزير السابق مصطفى شريف بـ :"الشاب الشجاع، والجريئ، والمخلص، قام بأعمال مذهلة، وعمليات شجاعة في وضح النهار".
"لابوانت" عنوان لطفولة صعبة
ولد علي لابوانت، واسمه الحقيقي علي عمار، في 14 مايو 1930، وهو العام الذي احتفلت فيه القوة الاستعمارية بالذكرى المئوية لاحتلالها للجزائر، في مكان يسمى الأنصار، يقع في منطقة وسط البساتين في الجزء السفلي من مدينة مليانة.
ولا يوجد تأكيد دقيق يفسر سر لقب "لابوانت" إلا أن هناك روايتين، الأولى تقول بأن سر الاسم يرجع إلى المكان الذين نشأ فيه والذي اسمه لابوانت بيسكاد سابقا (حالياً رايس حميدو) بينما يعتقد البعض أن سر اللقب يعود إلى (لابوانت دي بلغورس) تلك الساحة التي تقع في الطرف الجنوبي من مدينة مليانة والتي فر إليها لابوانت بعد مطاردة الدرك الفرنسي.
لقد عاش الشاب طفولة صعبة للغاية، وفي سرده لجزء مهم من حياته قال المؤرخ الجزائري عبد الفتاح الهواري صاحب كتاب "علي لابوانت في قلب معركة الجزائر": "عندما اندلعت الحرب الجزائرية عام 1954،كان لابوانت قابعا في سجن بربروسا حيث كان يقضي عقوبة لمدة عامين بتهمة الشروع في القتل،وقد أقنعه نشطاء جبهة التحرير الوطني بأنه ضحية للاستعمار وقاموا بحثه على الانضمام إلى القضية، ليهرب من السجن ويقرر العودة إلى الجزائر العاصمة".
مظليين ومشاة للقضاء عليه
ويورد المجاهد وقائد المنطقة المستقلة بالجزائر العاصمة ياسف سعدي في كتابه "ذكريات معركة الجزائر" أن لابوانت تقدم إليه عام 1955، طالبا الإلتحاق بالجبهة رسمياً، ليقرر اختباره بتكليفه في نفس اليوم بالقيام بعمليات ضد الشرطة الفرنسية، ولاحقا تم تكليفه بإغتيال رئيس فدرالية شيوخ مجالس الجزائر أحد الركائز القوية للاستعمار الفرنسي في الجزائر آميدي فْروجي وهي العملية الأشهر التي قام بها لابوانت.
وتنقل مشاهد الفيلم، كيف كان علي لابوانت (27 عاما)، رجل حرب يتمتع بذكاء وشجاعة ولديه القدرة على تنفيذ عمليات صعبة جدا، ورغم ما قيل وما كتب عن هذا الفتى إلا أن حكايته لا تزال تشكل لغزا تاريخيا بحسب المؤرخين الجزائريين، فهو صفحة التاريخ التي لم تكتمل عن حكاية شاب جزائري دوخ فرنسا.
في أبريل 1957، أكدت صحيفة لوموند أن الشرطة تسير في طريقها للإلقاء القبض عليه، وقد حوكم غيابيا، أثناء المحاكمة أمام محكمة عسكرية، بالإعدام باعتباره أحد قادة الثورة الأكثر خطورة.
وتعتبر عملية القضاء عليه واحدة من أعقد العمليات التي قام بها الجيش الفرنسي حيث إضطر لإنزال قواته من المظليين والمشاة بقيادة الجنرال مارسيل بيجار الذي أمر بتفجير المنزل في نهاية المطاق، وقد أسفر هذا العمل عن انهيار مباني مجاورة وقتل 24 جزائريا آخرين بينهم 8 أطفال.
وحسب أرشيف وزارة الدفاع الفرنسية المتواجد بقصر فينسين (باريس) ، فإن أن كل الجثث تم تحديد هويتها منها جثة علي لابوانت ورفاقه التي أزيلت من تحت الأنقاض في 9 أكتوبر 1957، وقد تم التعرف على جثث حسيبة وبوحميدي وعمر الصغير من قبل عائلاتهم.