بخطوات متلهفة تقطع فوزية خلف الله، المعروفة باسم "أم فؤاد" المسافة بين بيتها في الواحة الداخلة بالصحراء الغربية المصرية، والمتحف الأثنوجرافي لتراث الواحات المصرية، تفتح السيدة الخمسينية أبوابه في الصباح الباكر لتبدأ في استقبال الزوار ومباشرة عملها كُمشرفة على المكان الذي غيّر حياتها.
يقع المتحف في منطقة القصر الإسلامية التابعة لوزارة الآثار، ويضم بين أركانه تراث الخمس واحات المصرية، الداخلة والخارجة والبحرية والفرافرة وسيوة، حيث جمعت أستاذ الأنثروبولوجيا بكلية الآداب جامعة بني سويف، الدكتورة علية حسن حسين، محتوياته على مدار 40 عاما خلال رحلاتها بمختلف الواحات.
وتقول أم فؤاد في حديثها إلى موقع "سكاي نيوز عربية، بينما تنظر إلى محتويات المتحف بفخر: "لم أكن على دراية بتاريخ الواحات رغم نشأتي في الواحة الداخلة، لكنني صرت مسؤولة عن المتحف بعد لقائي مع الدكتورة علية".
وكانت السيدة البسيطة تجلس في بيتها، تطهو الطعام لزوجها وأبنائها، قبل أن تنتبه لحركة غير معتادة في الجهة المقابلة لهم، تحركت سريعا للتعرف على سر الضجيج لتجد أستاذة الأنثروبولوجيا تقف وسط عمال الترميم خلال تأسيس أول متحف خاص للواحات.
وأوضحت أم فؤاد: "علمت بحصولها على منزل بالمنطقة بقرار من المجلس الأعلى للآثار لتحويله إلى متحف على نفقتها الخاصة، بدأت في المساعدة لكن سرعان ما تعلق قلبي بالمكان".
وعلى مدار عام خضع المنزل- الذي يعود تاريخ إنشائه إلى أكثر من 300 عاما- إلى الترميم. وقد حرصت حسين على تمرير كافة المعلومات عن مقتنيات المتحف إلى "أم فؤاد"، الذي أصبح جاهزا للافتتاح عام 2002.
ويحتوي المتحف كما تُشير هبة صابر، الباحثة في علم الأنثروبولوجيا، ومؤلفة كتاب "المتحف الأثنوجرافي لتراث الواحات المصرية"، على أوجه التراث الثقافي للواحات الخمسة، من الزي الخاص بالرجال والنساء، الأدوات المستخدمة داخل البيوت، وملابس الزفاف.
وأضافت الباحثة في علم الأنثروبولوجيا لموقع "سكاي نيوز عربية": "يتضمن المتحف أيضا صور وسيرة أبرز الشخصيات في الواحات مثل الحاج أحمد زايد، أول حارس آثار في واحة الخارجة، ورجال الشرطة والقانون قديما، فضلًا عن الدكتور أحمد فخري، أول عالم آثار مصري يكتب عن تاريخ الواحات".
وفي حفل مزدحم بأهالي الواحة وبحضور اللواء مدحت عبد الرحمن، محافظ الوادي الجديد حينذاك، أصبح المتحف على استعداد لاستقبال الزوار، كما ألقت الدكتورة الراحلة حسين، بعض الكلمات خصصت جزءا منها عن "أم فؤاد".
وتتحدث السيدة الخمسينية لموقع "سكاي نيوز عربية" عن تلك اللحظة قائلة: "فوجئت بكلماتها الطيبة عن جهودي خلال تجهيز المتحف، ثم إعلانها بأنني سأتولى المسؤولية في غيابها لإخبار الزوار بتاريخ الواحات".
عن هذا الاختيار، تقول الباحثة التي أعدت كتابا عن المتحف: "بدا واضحا الاستجابة السريعة لـ "أم فؤاد" في تعلم كل ما يتعلق بتاريخ الواحات وشغفها بالتراث، شعرت بذلك الدكتور الراحلة فقررت تسليمها مفاتيح المتحف".
وبين ليلة وضحاها تبدل حال "أم فؤاد" من ربة منزل إلى مسؤولة ومُشرفة عن متحف يضم عشرات المقتنيات المهمة، التي توثق سيرة الواحات المصرية، وهي تجربة كبيرة ومثيرة حملتها على عاتقها بشغف شديد.
وتقول "أم فؤاد": أعتبر عملي بالمتحف نقلة مهمة في حياتي، وقد أحببت التجربة كثيرا، وعلى مدار سنوات تطورت شخصيتي ونجحت في اكتساب مهارات جديدة لم أتوقعها".
وشهد المتحف في سنواته الأولى توافد أعداد كبيرة من السائحين، حيث تزامن افتتاحه مع قفزة في أعداد الأجانب القادمين إلى مصر، بنسبة قُدرت بـ66 بالمئة بين عامي 2002 و2005، وفقا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بمصر.
وأشار الجهاز في نشرة إحصائية عن السياحة بمصر حينذاك، إلى استقبال نحو 5 ملايين سائح عام 2002، وأكثر من 6 ملايين في 2003، وزادت الأعداد لتصل إلى 8 ملايين و608 ألف سائح في نهاية عام 2005.
ومن خلال الاحتكاك اليومي بالأجانب داخل المتحف، تمكنت "أم فؤاد" التي حصلت فقط على شهادة الإعدادية، من إجادة اللغة الإنجليزية، والحديث مباشرة إلى السائحين عن تاريخ المكان وتراث الواحات دون وسيط.
وتضيف "أم فؤاد": "لم أعد في حاجة إلى مُترجم برفقة السائحين، صرت أتعامل مع كافة الجنسيات، وأكثرهم من دولتي ألمانيا وفرنسا".
لم تتوقف الحركة داخل المتحف، إذ بات محط اهتمام الباحثين في علم الأنثروبولوجيا وعشاق الواحات والصحراء الغربية، أو رحلات الجامعات من مختلف المحافظات، فضلا عن كبار رجال الآثار من بينهم زاهي حواس، وزير الآثار الأسبق.
وفي حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية"، يقول قياتي عاشور، مدرس مساعد بجامعة بني سويف، وأحد تلامذة الدكتورة "علية"، إنه سافر عدة مرات إلى الواحة الداخلة في زيارات ميدانية للمتحف مع عدد من الطلاب.
وتابع: "تملكتني الدهشة عندما دخلت إلى المتحف، إذ تم بذل مجهود كبير لحفظ الهوية المصرية في منطقة الواحات، وتوثيق أساليب الحياة لدى الأهالي، وقدرة أم فؤاد على شرح ذلك بطلاقة".
ونوه عاشور إلى قيام ابنة الواحة الداخلة إلى تطوير التجربة وإضافة عناصر جديدة للمكان، من بينها تجهيز مشغولات صُنعت بأيادي نساء الواحة، وإتاحتها بمبالغ رمزية لتوفير جزء من نفقات المتحف.
وتأرجحت أوضاع المتحف، وفقا لحديث "أم فؤاد"، ما بين ازدهار ثم تدهور نتيجة لتعرض السياحة إلى انتكاسة بعد عام 2011، وعودتها تدريجيا قبل تفشي فيروس كورونا المستجد.
ورغم قلة أعداد الزوار في الوقت الحالي، فإن أم فؤاد تؤكد حرصها على الذهاب يوميا إلى المتحف لترتيبه والحفاظ على هيئته، واصطحاب أولادها لتعليمهم قيمة المقتنيات والأدوات الموجودة داخله، لاستكمال مسيرتها وحلم الدكتورة علية.
وأنهت السيدة الخمسينية حديثها مع موقع "سكاي نيوز عربية"، قائلة: "رحلت أستاذة علية منذ سنوات لكني باقية على العهد، صار المتحف جزءا من كياني، ويعود إليه الفضل فيما وصلت إليه".